
كتب عنه جميل سالم يقول
كارل ماركس: فلسفة الثورة والوعي الاجتماعي
كارل ماركس، الفيلسوف الألماني الذي أعاد تشكيل الفكر الإنساني، لم يكن مجرد ناقد اقتصادي للرأسمالية، بل كان مؤرخًا اجتماعيًا وفيلسوفًا وجوديًا يقرأ أعماق الروح البشرية. أفكاره تجاوزت التحليل الاقتصادي البحت، لتغوص في نقد جذري للكيفية التي تتحول بها المجتمعات، حيث يتحول كل شيء إلى سلعة، ويفقد العالم "قداسته" أمام شهوة الربح.
الرأسمالية وسلعة الحياة
في قلب فلسفة ماركس، يكمن اعتقاد قوي بأن الرأسمالية لا تترك شيئًا مقدسًا. الدين، الفن، الأدب، وحتى العلاقات الإنسانية، تتحول إلى أدوات للربح. لا يعود الدين رسالة روحانية، بل سلعة تُباع في السوق. الأدب يفقد شغفه ليصبح منتجًا للتسويق. إنها حالة من الاغتراب تجعل الإنسان غريبًا عن ذاته وعن جوهره الإنساني.
ثنائية الثروة والبؤس
"تراكم الثروة في قطب واحد من المجتمع هو في نفس الوقت تراكم الفقر والبؤس في القطب الآخر." بهذه الكلمات البسيطة، يختزل ماركس الظلم البنيوي للرأسمالية. النظام الذي يغذي قلة على حساب الأغلبية، حيث يصبح البؤس شرطًا لازدهار آخرين. الثروة لا تتولد من فراغ، بل من استغلال العمال، الذين لا يمتلكون سوى أجسادهم للعمل.
وعي الفقر: شرارة الثورة
ماركس كان واضحًا: الفقر وحده لا يُشعل الثورة. إنما الوعي بالفقر هو الذي يحرك الجماهير. الطاغية يُفقِر الشعب، وشيخه يعمي بصيرتهم حتى لا يدركوا طبيعة الظلم الواقع عليهم. إنها علاقة تبادل أدوار تبقي الأغلبية أسيرة لواقعها، حيث يصبح التحرر مستحيلًا إلا عبر وعي جماعي.
السعادة في إسعاد الآخرين
من المثير للتأمل أن ماركس، رغم نقده اللاذع للرأسمالية، كان يرى أن السعادة الحقيقية تكمن في إسعاد الآخرين. هذا ليس مجرد شعار، بل جوهر لفلسفته الإنسانية. في عالم يختزل فيه الإنسان إلى أداة للإنتاج، يكون العطاء للآخرين فعلًا ثوريًا يتحدى منطق الربح والخسارة.
الفكر والمادة: العلاقة الجدلية
"أفكار الإنسان هي انبثاق لحالته المادية." بهذه العبارة يربط ماركس الفكر بالواقع الملموس. لا توجد أفكار في فراغ، بل هي انعكاس للظروف الاجتماعية والاقتصادية. أفكار الحرية والعدالة، مثلاً، لا تظهر إلا عندما يشعر الناس بغيابها.
التاريخ وصناعة الإنسان
البشر يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها. بل يولدون في عالم مليء بإرث الماضي، بما فيه من نجاحات وإخفاقات. هذا الفهم يحررنا من أوهام السيطرة المطلقة، لكنه يذكرنا أيضًا بمسؤوليتنا تجاه العالم الذي نتركه للأجيال القادمة.
ماركس اليوم
أفكار ماركس لا تزال تجد صدى في عصرنا، حيث تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتصبح القيم الإنسانية مجرد شعارات تسويقية. لكن في عالم يزداد تعقيدًا، يبقى وعي الإنسان بحقيقته هو الأمل الوحيد لصناعة مستقبل أكثر عدالة.
إن فلسفة ماركس ليست مجرد نقد للرأسمالية، بل دعوة مستمرة للتفكير في كيفية استعادة الإنسان لإنسانيته، في عالم باتت فيه السلع أكثر قداسة من القيم، والمصلحة الفردية أسمى من الخير العام.
....
جميل سالم، "كارل ماركس: فلسفة الثورة والوعي الاجتماعي
كارل هانريش ماركس (بالألمانية: Karl Marx) تُلفظ بالألمانية: [ka:ɐ̯l ˈhaɪnʀɪç ˈma:ɐ̯ks]،[36] (ولد في ترير في 5 مايو 1818 - وتوفي في لندن في 14 مارس 1883)؛[ar 1] فيلسوف وناقد للاقتصاد السياسي ومؤرخ وعالم اجتماع ومنظر سياسي وصحفي وثوري اشتراكي ألماني؛ درس القانون والفلسفة في جامعتي بون وبرلين، تزوج عام 1843 من الناقدة المسرحية والناشطة السياسية الألمانية جيني فون ويستفالين. بسبب منشوراته السياسية فقد نُزعت الجنسية عنه وأصبح عديماً لها لعقود أثناء عيشه في لندن مع زوجته وأطفاله، خلال حياته طوّر أفكاره بالتعاون مع صديقه فريدرك إنجلز. كتاباته الأشهر هي البيان الشيوعي ورأس المال بأجزائه الثلاثة. كان لفكره السياسي والفلسفي تأثير هائل على التاريخ الفكري والاقتصادي العالمي واستُخدم اسمه للتعبير عن مدرسةٍ فكرية كثيرة التطورات وهي المدرسة الماركسية.
نظريات ماركس والمعروفة بأنّها التفسيرات الماركسية؛ ترى بأن المجتمعات البشرية تتطوّر من خلال الصراع الطبقي ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي، وهذا الصراع يتجلّى بين الطبقات البرجوازية الحاكمة والمالكة لوسائل الإنتاج من جهة والطبقات العاملة المعروفة باسم البروليتاريا وهي الطبقات التي تبيع قوّة عملها من خلال عائد الأجور وتمكين وسائل الإنتاج.[37] استخدم ماركس منهج المادية التاريخية النقدي ليتنبأ بأن الرأسمالية ستُنتج توترات داخلية في النظم الاجتماعية والاقتصادية ما سيؤدي لتدميرها ذاتياً واستبدالها بنظام يُعرف بنمط الانتاج الاشتراكي، حيث رأى أنّها تفرز أزمات نتيجة عدم استقرارها الجزئي وهذا من شأنهِ أنّ يؤدي لوصول الطبقة العاملة لمرحلة الوعي الطبقي ما يدفعها للاستيلاء على السلطة السياسية وإنشاء المجتمع الشيوعي في نهاية المطاف وهو مجتمع لا طبقي مكوّنٌ من الارتباط الحر بين المنتجين.[38] ناضل ماركس من أجل تنفيذ مبادئه بحجة أنّ الطبقة العاملة يجب أن تقوم بعمل ثوري لإسقاط الرأسمالية وتحقيق التحرر الاجتماعي والاقتصادي.[39]
وُصف ماركس بأنّه أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في تاريخ البشرية وتعرضت أعماله للمدح والانتقاد.[40] مهّد عمله في رأس المال لنظرياتٍ عديدة حول علاقة العمل برأس المال.[41][42][43] عديد النقابات العمالية والفنانين والأحزاب السياسية في جميع أنحاء العالم تأثروا بأفكاره وعملوا على تطويرها أو تكييفها مع مجتمعاتهم، يُستشهد بماركس باعتباره أحد المهندسين المعماريين الرئيسين في
ولد كارل هانريش ماركس في 5 مايو 1818 في مدينة ترير التابعة لمملكة بروسيا؛ لعائلةٍ يهودية لكن أبوه كان قد اعتنق المسيحية اللوثرية قبل ولادته بسنة واستبدل اسم هرشل ماركس ليفي ليُصبح هنريش ماركس.[ar 2] ماركس هو الطفل الثاني لعائلةٍ تكوّنت من ثمانية أطفال، والدُه كان مُحامياً منحدراً من عائلةِ حاخاماتٍ يهود وهو نسبٌ مُشابه لأقربائه من أمهِ فهم كانوا حاخامات يهود أيضاً.[ar 3] مدينة ترير التي وُلد فيها كارل ماركس كانت جزءاً من مقاطعة نهر الراين السفلي التابع للملكة بروسيا، والد ماركس هو أول من تلقى تعليماً علمانياً في العائلة وأصبح محامياً يتمتع بدخل مُريح واعتُبر أنّ العائلة من الطبقة العُليا حيث إضافة لدخل الوالد من المحاماة كانت العائلة تمتلك عدداً من المزارع قرب نهر موزيل وتُنتج من خلالها النبيذ عالي الجودة.[48]
لم يكن والده متديناً بل كان من رجال عصر النهضة واهتم بأفكار إيمانويل كانط وفوليتير؛ انتهج الليبرالية الكلاسيكية ودفع باتجاه تطبيق إصلاحاتٍ دستورية في بروسيا المُتمتعة آنذاك بنظامِ حكمٍ ملكيٍ مُطلق.[49] بعد عمله في المحاماة بأربع سنين انتقل للعيش مع عائلته في عقارٍ مكونٍ من عشر غرف بالقرب من يورتا نيجرا،[50] زوجته هنرييت برسبرغ كانت يهودية هولندية من عائلة تمتلك تجارة مزدهرة؛ وأسَّست لاحقاً شركة فيليبس، أما أختها صوفي برسبرغ فتزوجت من ليون فيليبس وكانت جدّة لكل من جيرارد وأنطون وفريتس فيليبس. شركة ليون فيليبس (بالإنجليزية: Lion Philips) كانت تُنتج التبغ الهولندي الفاخر وقد اعتمد ماركس وزوجته عليها في وقت لاحق للحصول على قروض أثناء إقامتهما في لندن.[51]
ماركس لم يكن يهودياً في الدين بل في العرق وحسب، اهتم بالأفكار الفلسفية الهيجلية بشكلٍ خاص عندما كان طالباً في جامعة بون وبعدها في جامعة برلين.[ar 4][ar 5] بحلول عام 1836 كان ماركس قد نضج نوعاً ما وأصبح يُناقش والده في الأدب والسياسة والقانون وقد أثنى والده عليه وكتب له في إحدى الرسائل من ذات العام «إذا شاءت إرادة الله، فلاتزال أمامك حياة طويلة لتعيشها لخيرك ولخير عائلتك -وإذا كان حدسي صحيحاً- لخير البشرية» كان ماركس قد التقى بجيني فون ويستفالين في العام نفسه وبدأ في تبادل رسائل الغرام معها.[ar 6] كتب ماركس مقالات لعدّة صحف لعلّ أبرزها صحيفة لاغازيت دو كولونيا.[ar 7]
الهيغلية والصحافة المبكرة: 1836-1843
[عدل]
جيني فون ويستفالين في عقد 1830.
قضى ماركس صيف وخريف عام 1836 في ترير وخلال هذه الفترة أصبح أكثر جدية اتجاه دراسته وفي الفترة نفسها قابل جيني فون ويستفالين وهي فتاة متعلمة من الطبقة الحاكمة في بروسيا، كانت جيني على علاقة بشاب أرِستُقراطي لكنها قطعت علاقتها به لأجل الارتباط بماركس ليخلُقا علاقةً مثيرةً للجدل بسبب الاختلاف العرقي والطبقي بينهما ورغم هذه الفوارق إلاّ أنّ ماركس استطاع إنشاء صداقة مع والدها لودفيج فون ويستفالين.[52] برغم حصول ماركس على قبول لدراسة القانون في برلين[53] إلاّ أنّه كان مفتوناً بالفلسفة ومُقتنعاً بأنّ لا شيء يُمكن أن يُنجز بدونها.[54]
زاد اهتمام ماركس بالفيلسوف المُتوفي حديثا هيغل والذي نوقشت أفكاره بشكل واسع حينها من خلال الندوات الثقافية[55] وخلال فترة نقاهة قضاها في ستارلا انضم لنادي الأطباء (بالألمانية: Doktorklub) وهي مجموعة من الطلاب الذين ناقشوا الأفكار الهيغلية، من خلال هذه المجموعة انخرط بتنظيم راديكالي عُرف باسم الهيغليين الشباب واللذين كانوا يجتمعون حول لودفيغ فيورباخ وبرونو باور. كان الهيغليون الشباب متفقين مع ماركس حيث انتقدوا الفرضيات الميتافيزيقية الهيغلية لكنهم تبنوا الأسلوب الجدلي لتوجيه النقد الاجتماعي والسياسي والديني من وجهة نظر يسارية.[56] في عام 1838 توفي والد ماركس[57] وهو ما أثر على ماركس الذي بقي يعتز بذكرى والده طوال حياته.[58]
أنهى ماركس كتابة قصته العقرب وفيليكس عام 1837 وهي القصة الوحيدة التي كتبها كما أنهى مسرحية شعرية بعنوان دراما ألينم إضافة لبعض قصائد الحب التي كتبها لجيني؛ هذه الأعمال الأدبية لم تُنشر أثناء حياته،[59] لاحقا تخلّى عن اهتمامته الأدبية لأجل أهدافٍ أُخرى من بينها تعلم الإنكليزية والإيطالية ودراسة تاريخ الفن وترجمة الأعمال الكلاسيكسة اللاتينية[60] إضافة لانشغاله بالعمل على أطروحة الدكتوراه الفرق بين الفلسفتين الديموقريطية والأبيقورية عن الطبيعة[61] والتي وُصفت بأنّها عمل جريء يُوضح أنّ اللاهوت يجب أن يخضع للحكمة المُتعالية للفلسفة.[62] أثارت الأطروحة الجدل خصوصاً بين الأساتذة المُحافظين في جامعة برلين ما دفع ماركس لإرسال الأطروحة لجامعة جينا الأكثر ليبرالية والتي وافقت على مناقشتها ومنحته عليها درجة الدكتوراه في أبريل 1841.[63] بدأ التعاون بين ماركس وبرونو باور على تعديل الفلسفة الهيغلية عام 1840 وفي عام 1841 بدأ بالتخطيط لإنشاء مجلة تحت عنوان أرشيفات إلحادية (بالإنجليزية: Atheistic Archives) لكن المجلة لم تصل مرحلة النضج أبداً.[64]
حاول ماركس أن يُراعي اهتمامه الأكاديمي لكن حظر هذه الأعمال كان يتزايد حيث عارضت حكومة بروسيا بشكل متزايد الليبرالية الكلاسيكية والهيغليين الشباب،[65] ما دفعه للانتقال إلى كولونيا عام 1842 ليعمل كاتب في صحيفة راديكالية هي راينيش تسايتونج [الإنجليزية] ولاحقاً أصبح رئيس تحريرها وزاد تعبيره عن آرائه الاشتراكية كما وضَحَ اهتمامه بعلم الاقتصاد، وانتقد اليميمنية الأوربية في حكومة بروسيا وبعض الشخصيات الليبرالية والاشتراكية واعتقد أنّهم يأتون بنتائج عكسية.[66] هذه الآراء دفعت الحكومة البروسية لرقابة الصحيفة وإزالة محتويات من الأعداد قبل الطباعة لضمان خلوها من المواد «المثيرة للفتنة» وقد علق ماركس «يجب أن تقدم صحيفتنا للشرطة حتى يشموها، وإذا شمَّ أنف الشرطة أي شئ غير مسيحي أو بروسي، لن يسمح للصحيفة أن تظهر».[67] حُظرت الصحيفة عام 1843 بعد طلب من الإمبراطور الخامس عشر لروسيا نيكولاي الأول وذلك بعد نشرها مقالاً ينتقد بشدة الملكية في بروسيا.[68]
باريس: 1843-1845
في 11 أكتوبر 1843 وبعد زواجه من جيني وصل معها إلى باريس التي كانت عاصمة العالم الفكرية؛[ar 8] وأصبح مُحرراً في صحيفة الحولية الألمانية الفرنسية (بالألمانية: Deutsch-Französische Jahrbücher) وهي صحيفة يسارية أنشأها الاشتراكي الألماني أرنولد روج للتقريب بين الراديكاليين الألمان والفرنسيين.[69] بعد وصوله سكن ماركس مع زوجته في سكنٍ جامعي بشارع فانو، إلاّ أنّ ظروف الحياة أجبرتهم على تغيير مكان السكن بعد ولادة ابنتهم جيني.[70]
رغم محاولة الصحيفة جلب كتّاب مختلفي الجنسيات الأوروبية إلاّ أنّ الألمان هيمنوا عليها ولم تحوي إلاّ كاتب وحيد غير ألماني هو الشيوعي الروسي ميخائيل باكونين.[71]
شارك ماركس بمقالين هُما نقد فلسفة الحق عند هيغل[72] وحول المسألة اليهودية،[73] وقد قدم في مقاله الثاني أرائه حول الطبقة العُمالية وشرح قوتهم الثورية ووضّح اعتناقه للشيوعية،[74] رغم نشر مقال واحد فقط إلاّ أنّ ذلك يُعد نجاحاً نسبياً وفي الغالب فقد نُشر المقال بسبب تضمينه قصيدة غنائية لهاينرش هاينه يسخر فيها من لودفيج ملك بافارايا وهو ما دفع الولايات البروسية إلى حظر الصحيفة ومصاردة النسخ المستوردة، لكن وبسبب عدم توفر المقالات الفرنسية فإن الصحيفة تتعرض للفشل حتّى اسمها لم يعد صحيحاً «الحوليات الفرنسية-الألمانية» ما يدفع أرنولد روج للتأخر في دفع رواتب ماركس[ar 9] وصولاً لعدم تمويل النسخ المستقبلية من الصحيفة ما أدى لانهيار علاقة الصداقة بينه وبين ماركس.[75] بعد انهيار الصحيفة بدأ ماركس بالكتابة للصحيفة الألمانية الراديكالية اليسارية إلى الأمام (بالألمانية: Vorwärts) وهي الصحيفة الوحيدة التي لم تكن تخضع للرقابة[ar 10] ولها علاقات مع رابطة العدالة المكونة من الاشتراكيين المثاليين؛ حضر ماركس بعض لقاءاتها لكنه لم يشارك،[76] شكل عمله في الصحيفة أساساً لصقل وجهات نظرة حول الاشتراكية المبنية على أفكار الديالكتيكية المادية لهيغل وفيورباخ وفي نفس الوقت أنتقد الليبراليين والاشتراكيين الأخرين الموجودين في أوروبا.[77]
فريدريك إنغلز، التقى به ماركس عام 1844، وأصبحوا أصدقاء مدى الحياة.
في 28 أغسطس 1844 التقى ماركس لأول مرة بفريدرك إنجلز والذي سيصبح صديقه المُقرب لاحقاً، كان إنجلز بروسياً أيضاً ومُحباً لفلسفة هيجل وكان من عائلةٍ غنية. [ar 11] اللقاء كان في مقهى لاريجونس وعرض إنجلز على ماركس عمله حديث النشر ظروف الطبقة العاملة في إنجلترا في عام 1844[78][79] وتحدث معه عن الطبقة العاملة التي ستكون وفق رؤية إنجلز فاعل وأداة آخر ثورة بالتاريخ؛[80][81] بعدها قررا كتابة نقدٍ حولَ الأفكار الفلسفية لصديق ماركس السابق برونو باور ونُشر العمل عام 1845 تحت عنوان العائلة المقدسة.[82][83] على الرغم من انتقاد ماركس لباور إلاّ أنّه تأثر بشكل متزايد بأفكار الشباب الهيغليين ماكس شتيرنر ولودفيغ فويرباخ، لكن في النهاية تخلّى ماركس وصديقه عن مادية فويرباخ.[84]
خلال فترة معيشته في المنزل 38 بشارع ريو فانيو في باريس؛[85] انكبّ ماركس بدارسةٍ مُكثفةٍ للاقتصاد السياسي فقرأ آدم سميث وديفيد ريكاردو وجيمس مل وآخرون[86] إضافة لقراءة أعمال الاشتراكيين الفرنسيين خصوصاً هنري دو سان سيمون وشارل فورييه[ar 12][87] وقراءة التاريخ الفرنسي.[88] دراسة الاقتصاد السياسي هي التي سيُتابعها ماركس طوال حياته[89] ويُنتج منها أهم أعماله وهو كتاب رأس المال بمجلداته الثلاثة.[90]
استندت الماركسية بشكل عام على ثلاث دعائم هي جدلية هيغل والاشتراكية الطوباوية الفرنسية والاقتصاد الإنكليزي، ومع دراسته السابقة لجدلية هيغل كانت دعائم الماركسية الثلاث قد تكوّنت خلال إقامته في باريس مع حلول خريف 1844.[91] كان ماركس يضطر غالباً لإهمال دارسته في الاقتصاد السياسي ليس فقط بسبب مطالب الحياة اليومية بل وأيضاً لكونه صحفياً في صحيفة مُتطرفة إضافة لتوجيهه لجهود حزب سياسي خلال سنوات الانتفاضات الثوريّة المُحتمل حدوثها، لكنه بقي مُنجذباً بشكلٍ كبير لفهم العوامل الداخلية للرأسمالية.[88]
أثنى ماركس على أفكار فيورباخ وانطلق منه في تحليله «للعمل المُغتَرَب» «كلما ازداد انتاج العامل للثروة، وكلما ازداد انتاجه قدرة وحجماً، يزداد العامل فقراً»؛[ar 13] وبعدها حلّل مفهوم الاغتراب،[ar 14] ما يُشير إلى أنّ مخطط الماركسية تكوّن بذهنه في أواخر 1844 أو أوائل 1845 حيث وضع العديد من السّمات الأساسية للرؤية الماركسية لكنه احتاج لتدوين كل تفصيلة لتوضيح نقده الجديد للاقتصاد السياسي.[92] وعليه فقد كتب الكثير من المخطوطات الاقتصادية والفلسفية.[93] دراسة ماركس المستمرة للاقتصاد السياسي والرأسمالية دفعه لإدراك ضرورة أن يُبنى منهجه الجديد على أساس مادي متطوّر.[94]
كُتبت غالبية المخطوطات الاقتصادية والفلسفية بين أبريل وأغسطس من العام 1844، لكن ماركس أدرك سريعاً أنّها تأثرت ببعض أفكار فيورباخ غير المُتشقة ما دفعه للانفصال عن مادية فيورباخ لصالح المادية التاريخية. هذا الانفصال دفع ماركس بعد انتقاله لبروكسل لكتابة أُطروحاته الحادية عشر حول فيورباخ[95] واشتهرت باسم «الأطروحة 11» والتي تنص على أن الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة، لكن الهدف هو تغيره.[96][97] انتقد ماركس في عمله الفلسفات السابقة بشكل عام فهي تَصِف العالم المجرد فقط، المادية عند فيورباخ بشكل خاص بوصفها مادية تأملية وانتقد المثالية على اعتبارها تختزل الممارسة والنظرية،[96] وهذه كانت الإشارة الأولى للمادية التاريخية حيث قدم ماركس حجّة مفادها أن العالم لا يتغير بالأفكار ولكن من خلال الممارسة والنشاط الفعلي والمادي.[96][98]
في عام 1845 استجابت الحكومة الفرنسية لبرقية الملك البروسي الطالبة بإغلاق صحيفة إلى الأمام (بالألمانية: Vorwärts)[99] وطُرد ماركس من فرنسا لينتقل للعيش في بروكسل.[ar 15]
بروكسل 1845-1848
غلاف البيان الشيوعي
مع عدم القدرة على البقاء في فرنسا واستحالة العودة إلى ألمانيا غادر ماركس إلى بروكسل عام 1845[ar 16] رفقة زوجته جيني التي كانت حاملاً وابنته المريضة جينين؛ فُرض على ماركس مثل كل المهاجرين التوقف عن العمل بالسياسة لذلك كان مُطالب بالبحث عن وظيفة لكنّه كان يمقت هذا التصرف وقرر الاعتماد على كتاباته لكسب عيشه وفي انتظار الفرصة للكتابة استطاع أن يحصل على منزل فسيحاً في بروكسل.[ar 17] وتحوّل إلى قيادي شيوعي بارز[ar 18] وأنشأ علاقات مع الاشتراكيين المنفيين من جميع أنحاء أوروبا مثل موزس هس وكارل هاينزن وجوزيف ويدماير [الإنجليزية]. انضم إنجلز لهم في أبريل 1845 بعد مغادرته ألمانيا وأصبح ماركس وإنجلز أعضاء في رابطة العدل [الإنجليزية][99][100] وكُلفوا بكتابة البرنامج السياسي لرابطة والذي سيُعرف لاحقا بالبيان الشيوعي.[ar 19] انضمت صديقة إنجلز ماري بيرنز لهم بعد مغادرتها لندن.[101]
في منتصف يوليو من العام 1845 يغادر ماركس وإنجلز إلى لندن للقاء قادة حركة الميثاقية وهي من أولى الحركات البريطانية التي أُنشئت لدعم الطبقة العاملة. هذه الرحلة كانت الأولى لماركس إلى إنجلترا وقد كان إنجلز دليله فيها حيث أمضى عامين في مانشستر[ar 20] من نوفمبر 1842[102] حتّى أغسطس 1844.[103] إضافة لإتقانه للغة الإنكليزية فقد أنشأ إنجلز العديد من العلاقات مع قادة الجركة الميثاقية وعمل مراسلاً للصحف الاشتراكية الإنكليزية،[104] استغل ماركس الرحلة للنظر في الموارد الاقتصادية المُتاحة للدراسة في مكتباتٍ مختلفة في لندن ومانشستر.[105]
مُتعاوناً مع إنجلز بدأ ماركس في كتابة الأيديولوجيا الألمانية[ar 21] كُتب العمل -الذي سيُنظر إليه على أنّه مُقدمة أفضل معالجة لمفهوم المادية التاريخية-[106] في 1846.[ar 22] من خلال هذا الكتاب انفصل ماركس عن فيورباخ وبرونو باور وماكس شتينر والهيغلين الشباب إضافة لانفصاله عن كارل غرون وحركة الاشتراكيين الحقيقيين واللذين كانوا يعتمدون على المثالية في فلسفتهم بينما قدم ماركس وإنجلز في الكتاب المادية بوصفها المُحرك الوحيد لحركة التاريخ.[ar 23][107] ورغم الكتابة بالأسلوب الساخر إلاّ أن الرقابة على أعمال ماركس حالت دون نشر الكتاب الذي لم يُنشر بشكل رسمي حتّى عام 1932.[96][108][109]
بعد انتهائه من كتابة الأيديولوجيا الألمانية شَرَعَ ماركس في كتابة نصٍ لتوضيحِ موقفه من نشاطات الحركات الثورية بوجهةِ نظر «فلسفية علمية»،[110] وعنون نصّه الجديد بعنوانٍ مُتهكم هو بؤس الفلسفة للحيلولة دون وقفه في الرقابة.[ar 24] الهدف من العمل الجديد كان التمييز بين الاشتراكيين الخياليين وفلسفته الاشتراكية؛ ففي حين كان هدف الخياليين إقناع شخص واحد في كلّ مرّة بالانضمام لهم فإن ماركس رأى أنّ الأشخاص يميلون في غالبية المناسبات للتصرغ وفق مقتضاياتهم ووفق مصالحهم الخاصة وبالتالي لا يوجد فائدة من إقناع شخص واحد في كلِّ مرّة والأفضل هو توجيه الخطاب لطبقة كاملة من المجتمع -الطبقة العاملة في هذه الحالة- وبذلك يُمكن إحداث تغيير جذري في المجتمع.[111] العمل قُدِّم عام 1847 ليكون رداً على «الفلسفة البرجوازية الصغيرة» للاشتراكي اللاسلطوي الفرنسي بيير جوزيف برودون الذي عبر عن أفكاره في كتابه فلسفة الفقرة عام 1840.[112]
ماركس وبناته مع إنجلز
أدت الحركات العمالية التي اندلعت في أوروبا عامي 1846 و 1847[ar 25] للضغط على ماركس من قبل رابطة العدل لكتابة بيان الحركة؛ لكن ماركس أجلّ العمل على البيان بسبب انشغاله بكتابة مقالين مهمين أولهما ناقش موضوع التبادل الحُر والثاني اهتم بالاستغلال وعُرَِف فيما بعد بالعمل المأجور ورأس المال.[ar 26] شكلّ هذين العمليين مُنعطفاً في تفكير ماركس وأسّسوا مع أعماله السابقة القواعد الأساسية للعمل الأكثر شهرة والذي سيُعرف باسم البيان الشيوعي.[ar 27] بقي ماركس مُرتبطاً برابطة العدل[113] واعتقد أنّها تنظيم راديكالي مطلوب لتحفيز الطبقة العاملة في أوروبا للبدء بحراك جماهيري يوصلها إلى السلطة.[114] لكن لتنظيم الحراك العُمالي كان على الحركة أن تكف عن توجهها السري وتُعلن عن نفسها باعتبارها حزب سياسي[115] وقد أدرك أعضاء الحركة هذه الحقيقة وأعلنوا في يونيو 1847 تنظيم الحركة لتكون مجتمعاً سياسياً علنياً[116] يستقطب الطبقات العاملة مباشرة، هذا التنظيم الجديد كان يُسمى العصبة الشيوعية،[117] وقد شارك ماركس وإنجلز في كتابة المبادئ الأساسية للحركة الجديدة.[118]
بدأ ماركس مع إنجلز بكتابة البيان الشيوعي في ديسمبر 1847 وحتّى يناير 1848 ونُشر لأول مرة في 21 فبراير 1848.[119] البيان حوّل العصبة الشيوعية من السريّة للعلنيّة ووضح أهدافا ونواياها لعامة الناس.[120] السطور الأولى للبيان حدّدت الأساس الرئيس للماركسية «إن تاريخ أي مجتمع حتّى الآن، ليس سوى صراعات طبقية»[ar 28] يشرح ماركس عبر فصول البيان صراعات المصالح بين الطبقة البرجوازية والطبقة العمالية[121] ويُقدم البيان حجته لإثبات اختلاف العمل بين العصبة الشيوعية وباقي الأحزاب الاشتراكية والليبرالية حيث عملت وحدها لتحقيق مصالح العُمال والإطاحة بالمجتمع الرأسمالي واستبداله بالاشتراكية.[122]
في نفس العام شهدت أوروبا العديد من الاحتجاجات والتي عُرفت لاحقاً باسم ثورات 1848 أو الربيع الأوروبي.[ar 29] في فرنسا أدت الاحتجاجات لإسقاط النظام الملكي وإنشاء الجمهورية الفرنسية الثانية[123] وقد كان ماركس داعماً لمثلِ هذه التمردات خصوصاً بعد حصوله على ميراث والده قرابة 6000 فرنكاً (1700 تالر)؛[ar 30] الميرات منذ 1838 لكن عمه حجبه عنه،[124][125] وادعى أنّه استهلك ثلثها لأجل تسليح عمال بلجيكيين كانوا يخططون لنشاطٍ ثوري،[126] وبرغم الجدل حول صحة ادعاءات عمّه[124][127] إلاّ أنّ وزارة العدل البلجيكية اتهمت ماركس بذلك واعتقلته لاحقاً ما أجبره على الفرار إلى فرنسا ظنّا منه بأن الأمان سيكون مع السلطة الجديدة.[126][128]
كولونيا 1848-1849
بقي ماركس لفترةٍ قصيرةٍ في باريس ونقل مركز العصبة الشيوعية إلى المدينة وأنشأ مع عدد من الاشتراكيين البروسيين نادي العمال البروسيين [الإنجليزية] في فرنسا على أملِ انتقال الثورة إلى بروسيا.[129] علم 1848 عاد إلى كولونيا وبدأ بإصدار كُتيب يدوي بعنوان مطالب الحزب الشيوعي في ألمانيا،[130] ودافع مع خلال كُتيبه على أربع نقاط فقط من بيانه الشيوعي مُعتبراً أنّ على البرجوازية البروسية أن تُطيح بالملكية الإقطاعية والأرستقراطية قبل أن تتمكن الطبقة العاملة من الإطاحة بالبرجوازية.[131] في الأول من يونيو بدأ بنشر صحيفة جريدة نهر الراين الجديدة [الإنجليزية] وقد ساعده في تمويلها حصوله على ورثت والده المُتبقية؛ الصحيفة صُممّت لنشر جميع أخبار أوروبا وفق رؤية كارل ماركس وتفسيره للأحداث، ورغم مساعدة زملائه في العصبة الشيوعية إلاّ أنّ التأثير المُهيمن كان لماركس في التحرير ووفق إنجلز فقد ظلّت الصحيفة «دكتاتورية بسيطة لماركس».[132][133][134]
خلال تحريره للمقالات الصحفية كان يتعرض مع الاشتراكيين للمضايقات من قبل الشرطة وقد قُدم للمحاكة عدّة مرات ووُجهت له تُهم مختلفة مثل إهانة رئيس النيابة العامة وارتكاب جُنحة صحفية والتشجيع على التمرد المُسلح؛[135] ورغم هذه التُهم إلاّ أنّه كان يُبرأ في كلِّ مرّة.[136][137] في تلك الأثناء كان البرلمان البروسي ينهار وقدم الملك فريدرش فيلهلم الرابع حكومة جديدة مؤيدة للرجعية نفذت إجراءات لطرد اليسار والحركات الثورية من البلاد.[135] ونتيجة لذلك أُغلقت صحيفة الراين الجديدة وأُمر ماركس بمغادرة البلاد في 16 يوليو[134][138] وعاد إلى باريس التي كانت تشهد ثورة مضادة حيث طُرد لاعتباره تهديداً سياسياً، مع اقتراب ولادة طفله الرابع وعدم قدرة زوجته على العودة لبلجيكا أو بروسيا فقد لجأ إلى لندن في أعسطس 1849.[139][ar 31]
الحياة في لندن 1850-1883
في أغسطس 1847 وصل ماركس إلى لندن[ar 32] حيث سيبقى فيها لآخر حياته؛ وانتقل مقر العصبة الشيوعية لنفس المدينة أيضاً لكن وجود العصبة في لندن تحت إدارة ماركس لم يمنعها من الانقسام حيث بدأ فصيل داخلها بقيادة أوغست ويلش [الإنجليزية] وكارل شابر [الإنجليزية] في التحريض على انتفاضة فورية إذ اعتقدوا أنّ بداية الانتفاضة في العصبة الشيوعية ستؤدي لتحريض الطبقة العاملة بأكملها في جميع أنحاء أوروبا وستنضم تلقائياً لهم. ماركس وإنجلز احتجوا على ذلك معتبرين أن مثل هذه الانتفاضة غير المنظمة ستكون مغامرة وربّما ستكون انتحاراً للعصبة الشيوعية.
انتفاضة بهذا الشكل ستُسحق بسهولة من قبل الشرطة والقوات المسلحة للحكومات الرجعية في أوروبا، وقد أكدّ ماركس أن هذا من شأنّه أن يُهدد العصبة الشيوعية بأكملها فالتغيرات لا تتحقق بين ليلة وضحاها من خلال جهود بعض من الرجال.[140] بدلاً من ذلك يجب أن تكون التغيرات من خلال التحليل العلمي للظروف الاقتصادية للمجتمع ومن خلال التحرك نحو الثورة عبر مراحل مختلفة من التنمية الاجتماعية. شعر ماركس بعد فشل الانتفاضات التي انطلقت في أوروبا عام 1848 بأنّ الطبقة العاملة يجب أن تُشَجَع على الاتحاد مع العناصر التقدمية من البرجوزاية بهدف هزيمة الأرستقراطية الإقطاعية، بعبارة أخرى يجب على الطبقة العاملة أن تنضم إلى القوى البرجوازية والديمقراطية لتحقيق خاتمة ناجحة للثورة البرجوازية قبل التأكيد على أجندتها.
بعد الصراع الذي هدد وجود العصبة الشيوعية عاد رأي ماركس ليسود وغادرت مجموعة ويليس/شاير العصبة وخلال تلك الفترة انخرط ماركس بشدة في جمعية تعليم العمال الألمان [الإنجليزية].[141] عقدت الجمعية أولى اجتماعاتها في شارع جريت ويندمل وسط لندن،[142][143] وأيضاً عانت من انقسامات حيث مال بعض أعضائها لفصيل ويليس/شاير ولنفس الأسباب التي أدت لانقسام العصبة الشيوعية، لكن ماركس خسر المعركة واستقال في 17 سبتمبر 1850.[144]
الكتابة لصحيفة نيويورك تريبيون
في الفترة الأولى في لندن كان ماركس ملتزماً بشكلٍ كبير بدراساته لدرجة أنّه وعائلته عاشوا في فقرٍ مدقع[145] كما أنّه كان منبوذاً بسبب نشاطه الثوري،[ar 33] وكان يعتمد في دخله الأساسي على صديقه إنجلز المالك لمصدر دخل كبير من والده الصناعي.[146] دفع الفقر الشديد ماركس لترك الغرفة التي استأجرها في شارع سيلشي بعد أن طُرد منها للانتقال لكوخ صغير في أسوأ الأحياء صيتاً في المدينة وهو حي سوهو والذي لقبه كاتب سيرة جيني بشارع الموت.[ar 34]
في هذه الأثناء كان لماركس صحيفته في بروسيا وكان مساهماً للمتحالفين معه أيديولوجياً إضافة لسهولة الوصول للطبقة العاملة في لندن وبذلك تحوَّل مع إنجلز للصحافة الدولية حيث نُشرت أعمالهم في إحدى المرات في ست صحف في إنجلترا والولايات المتحدة وبروسيا والنمسا وجنوب أفريقيا.[147] كانت أرباح ماركس الرئيسية تأتي من مقالاته المكتوبة باللغة الإنكليزية لجريدة نيويورك تريبيون[148]:17 إضافة لبعض الصحف البرجوازية وقد تُرجمت مقالاته للألمانية بواسطة فيلهلم بيبير.[149]
صحيفة نيويورك ديلي تريبيون كانت قد تأسست في أبريل من العالم 1841 على يد هوراس غريلي[150] وضمت هيئة تحرير من البرجوازيين التقدميين منهم جورج ريبلي ورئيس التحرير تشارلز دانا[ar 35] والذي كان فوريوري الاعتقاد الاقتصادي وناشطاً لأجل التحرر من العبودية إضافة لكونه صلّة الوصل مع ماركس. العمل الجديد كان وسيلة استغلها ماركس للوصول إلى جمهور وراء الأطلسي وإظهار لحربه الخفية مع هنري تشارلز كاري.[151] الصحيفة والتي كانت تُباع بسنتين كان لها شعبية واسعة بين أفراد الطبقة العاملة[152] وبأكثر من 50000 نسخة لكل إصدار فقد كانت الصحيفة الأكثر توزيعاً في الولايات المتحدة الأمريكية.[148]:14 حيث كانت الصحيفة تحمل خطاب تقدمي يعكس موقف مؤسسها.[148]:82 مقال ماركس الأول نُشر في 21 أغسطس 1852 وكان حوّل الانتخابات البرلمانية البريطانية.[153][ar 36]
في الفترة من ديسمبر 1851 وحتّى ماركس 1852 عمل ماركس على كُتيب نظري عن الثورة الفرنسية 1848 بعنوان الثامن عشر من برومير لويس نابليون[ar 37] [154] واستكشف فيه مقاهيم المادية التاريخية والصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا وانتصار البروليتاريا على الدولة البرجوازية.[155] في أبريل 1857 دعا دانا ماركس لكتابة مقالات بشكل أساسي عن التاريخ العسكري وتقديمها لـ سيكلوبيديا أمريكا الجديدة [الإنجليزية] وهي فكرة صديقه جورج ريبلي وهو المحرر الأدبي في صجيفة تريبيون. نُشر في الصحيفة 67 مقال لماركس وإنجلز أغلبها كتبها إنجلز وماركس أجرى بعض الأبحاث عنها.[156] مع أواخر خمسينات القرن التاسع عشر تضاءل الاهتمام الأمريكي بالشؤون الأوروبية وتحولت مقالات ماركس لموضوعات تتركز حول أزمة العبودية والحرب الأهلية الأمريكية 1861.[157]
دفع الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة دانا لتعديل طريقة عمل ماركس وأخبره في 21 مارس 1857 أنّه سيدفع له أجار مقال واحد اسبوعياً سواء نُشر أم لم يُنشر وسيُدفع مقابل المقالات الأُخرى إذا نُشرت فقط. في شهر أكتوبر من نفس العام أوقفت الصحيفة تعاملها مع جميع مراسلي أوروبا باسثناء ماركس وتايلور (بالإنجليزية: B. Taylor) واختزلت أعمال ماركس لمقالة واحد في الأسبوع، وبين سبتمتبر وأكتوبر 1860 كانت قد نشرت خمس مقالات فقط ولم يستأنف ماركس نشاطه فيها إلاّ في سبتمبر 1861 وحتّى مارس 1862 عندما كتب له دانا لإبلاغه عدم وجود شواغر لنشر التقارير والمقالات القادمة من لندن بسبب الشؤون الداخلية الأمريكية.[158] في عام 1868 أنشأ دانا صحيفة ثانية وهي شمس نيويورك (بالإنجليزية: New York Sun) وكان هو رئيس تحريرها.[159]
يمكن القول بأن فترة الخمسينات والستينات من القرن التاسع عشر حددّت فلسفياً ماركس الهيغلي الشاب وماركس صاحب الأيديولوجية العلمية الأكثر نضجاً[160][161] والمرتبطة بالماركسية البنيوية[162][163] رغم أنّ الكثير من الفلاسفة والمؤرخين لا يقبلون بهذا الطرح.[162][164] بالنسبة لماركس وإنجلز فقد كانت ثورات 1848 و 1849 أساسية في تطوير نظريتهما في الاقتصاد والتقدم التاريخي، وبعد فشل هذه الثورات ظهر الزخم الثوري مُستهلكاً ولن يتجدد دون أزمة اقتصادية. مشأ الخلاف بين ماركس وزملائه في العصبة الشيوعية اللذين وصفهم بأنّهم «مغامرون» اذ اعتقدوا أنّ قوة الإرادة يمكن أن تكون كافية لخلق الظروف الثورية في حين رآى ماركس أن الظروف الاقتصادية هي الشرط الأساسي. الركود الاقتصادي الذي بدأ في الولايات المتحدة عام 1852 بعث الأمل بالنشاط الثوري لدى ماركس وإنجلز ومع ذلك فقد نُظر للاقتصاد بأنّه غير ناضج لتحقيق الثورة المطلوبة، لكن أي أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة لن تؤدي إلى عدوى ثورية تنتقل لاقتصادات أوروبا فقد كانت أنظمة مُغلقة، ومع انتشار حالة الذعر 1857 في أمريكا؛ تحطمت كل النماذج الاقتصادية وعُرِّفت أول أزمة مالية عالمية حقيقية.[165]
الأممية الأولى ورأس المال
غلاف المجلد الأول لرأس المال
بعد الإخفاقات التي منيت بها الثورات في أوروبا سعى ماركس لفهم أكبر لنمط الإنتاج الرأسمالي وذلك لتقديمٍ نقدٍ مناسب، ولتحقيق ذلك قضى أوقاتاً طويلة يدرس في المتحف البريطاني[166] ومع حلول عام 1857 كان قد دوّن أكثر 800 صفحة من الملاحظات حول رأس المال وملكية الأرض والعمل المأجور والدولة والتجارة الخارجية والسوق العالمي. هذه الملاحظات المُجمعة لم تظهر حتّى عام 1939 حيث نُشرت تحت عنوان أسس نقد الاقتصاد السياسي.[167][168][169]
نشر ماركس مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي عام 1859،[170] وهو أو عمل وّجه فيه نقداً جاداً للاقتصاد؛ الهدف من الكتاب أن يكون معاينة لكتابه الذي سينشر لاحقاً وهو رأس المال. في عمله هذا توّسع ماركس في شرح نظريات قيمة العمل التي دعا إليها ديفيد ريكاردو. استُقبل العمل بحماس وبيعت نسخه بسرعة.[171]
المبيعات الناجحة لكتاب مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي حفزت ماركس في أوائل الستينات لإنهاء عمل رأس المال والذي سيكون عمله الرئيس خلال حياته حيث ناقش رأس المال ونظريات فائض القيمة وانتقد منظري الاقتصاد السياسي لا سيما آدم سميث وديفيد ريكاردو.[146] يُشار دائماً لنظرية فائض القيمة باعتبارها المجلد الرابع لرأس المال وهي واحدة من الأطرحات الأولى الشاملة لتاريخ الفكر الاقتصادي.[172]
استمر ماركس بكتابة المقالات الصحفية لنيويروك ديلي تربيون فقد كان مُتأكداً بأن السياسة التحريرية تقدمية، لكن رحيل تشارلز دانا عن رئاسة التحرير في أواخر 1861 أدى لتغيير السياسة القديمة في النشر.[173] لم تعد الصحيفة تتخذ موقفاً قوياً في سبيل إلغاء عقوبة الإعدام ودّعمت سلاماً فورياً للاتحاد بين الولايات مع بقاء العبودية ضمن الكونفدرالية الجديدة، كان ماركس مُختلفاً بشدّة مع هذا الموقف ما دفعه للانسحاب من الصحيفة في 1863.[174]
انضم ماركس عام 1864 لرابطة العمال الدولية والتي عُرفت بالأممّية الأولى[175] وانتُخب في مجلسها العام [ar 38] مع أوائل انطلاقاتها[176] وشارك في النضال ضد الجناح اللاسلطوي المتمركز حوّل ميخائيل باكونين (1814-1876)،[146] وعلى الرغم من نجاح ماركسفي مواجهة باكونين إلاّ أنّه أيّد نقل مركز عمل الرابطة من لندن إلى نيويورك عام 1872 ما أدى لتدهور الأممّية الأولى.[177] الحدث السياسي الأهم للأممية الأولى كان كومونة باريس (1871) عندما تمرد مواطنو باريس على حكومتهم واستولوا على المدينة لمدة شهرين، ورداً على القمع الدموي لهذا التمرد كتب ماركس أحد أشهر كتيباته الحرب الأهلية في فرنسا دفاعاً عن الكومونة.[178][179]
كارل ماركس عام 1875
عام 1867 نُشر المجلد الأول من رأس المال وهو عمل حُللّت فيه عملية الإنتاج الرأسمالية.[180] وضع ماركس في هذا العمل نظريته الخاصة بالقيمة والمتأثرة بتوماس هودجسكين [الإنجليزية] وقد أقر ماركس بالعمل الرائع لهودجسكين في الدفاع عن العمالة ضد مطالبات رأس المال (بالإنجليزية: Labour Defended against the Claims of Capital)، وقد دافع هودجسكين عن عمله في أكثر من نقطةٍ وجهت له في رأس المال.[181]
اقتبس ماركس من هودجسكين الاعتراف بتغريب العمل في ظل الإنتاج الرأسمالي « لم يعد هناك أي مكافأة طبيعية للعمل الفردي. كل عامل ينتج فقط جزءً من الكل، وكل جزء ليس له قيمة أو منفعة في حد ذاته؛ لا يوجد شيء يمكن للعامل أن ينتهزه، ويقول: هذا هو المنتج ، سأحتفظ بهذا لنفسي»[182] في المجلد الأول من رأس المال أوضح ماركس مفهومه لفائض القيمة والاستغلال وقال أنّه يؤدي في النهاية لانخفاض معدل الربح وانهيار الرأسمالية الصناعية.[183]
ماركس 1882
مجلدا رأس المال الثاني والثالث بقيا مخطوطات عمل عليهم ماركس حتّى نهاية حياته ونُشرا بواسطة إنجلز بعد وفاته،[146] نُشر المجلد الثاني عام 1893 تحت عنوان رأس المال: المجلد الثاني؛ عملية تداول رأس المال [184] ونُشر المجلد الثالث بعد عام تحت عنوان رأس المال: المجلد الثالث؛ عملية تداول رأس المال ككل.[185] تظرية فائض القيمة مُشتقة من المخطوطات الاقتصادية المُترامية والتي كتبها ماركس بين 1861-1863 وتُعتبر مسودة ثانية لرأس المال، وتمتد هذه المخطوطات من الجزء الأخير للمجيد الثلاثين حتّى النصف الأول من المجلد الثاني والثلاثين ضمن الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز.[186][187][188] بينما تمتد المخطوطات الاقتصادية الأكبر المكتوبة بين عامي 1861-1863 من بداية المجلد الثلاثين وحتّى لمجلد الرابع والثلاثين؛ الجزء الأخير من المجلد الرابع والثلاثين يتكون من المخطوطات المكتوبة في 1863-1864 والتي مثلّت مسودة ثالثة لرأس المال وجزء كبير منها ليكون ملحقاً في طبعة المجلد الأول.[189] في عامي 1905 و 1910 نُشرت طبعات مختصرة لفائض القيمة وتُرجمت للإنكليزية ونُشرت في لندن عام 1951، لكن نسخةً كاملةً نُشرت في موسكو عامي 1963 و 1971 باعتبارها المجلد الرابع لرأس المال.[190]
تدهورت صحة ماركس خلال العشر سنوات الأخيرة ولم يكن قادراً على بذل نفس الجهد السابق. خلال حياته تمكن من التعليق بشكل كبير على السياسات التي عاصرته لا سيما في بروسيا وروسيا[ar 39] وقد قدم نقداً لبرنامج جوتا عارض فيه ميل أتباعه إلى التسوية مع اشتراكية الدولة الذي قدمه فرديناند لاسال عن طريق حزب اشتراكي موحد.[146] وقد بدا ذلك واضحاً من خلال الشعار الذي روّجه ماركس من كل حسب قدرته إلى كل حسب حاجته.[191]
في 8 مارس 1881 أرسل ماركس إلى فيرا زاسوليتش متحدثاً عن فكرة تجاوز روسيا لمرحلة التطوّر الرأسمالي وبناء الشيوعية على أساس الملكية المشتركة للأرض والمميزة للمجتمع الريفي الروسي (بالروسية: общи́на) أو اختصاراً (بالروسية: мир)[146][192] واعترف ماركس بأن المشاعية الريفية في روسيا هي نقطة الارتكاز للتجديد الاجتماعي في روسيا إضافة إلى أنّه حذر من أنّ الانتقال إلى الاشتراكية في روسيا دون المرور بمرحلة رأسمالية للقضاء على التأثيرات الضارة التي تهاجمها الجماعات الريفية من كل الجهات، فإذا ما قضي على هذه التأثيرات ستُخلق الظروف الطبيعية للتطوّر العفوي في المجتمع الريفي. وأشار في نفس الرسالة إلى أنّ جوهر النظام الرأسمالي يكمن في الفصل التام بين المنتج ووسائل الإنتاج.[193]
في المسودة الأولى للرسالة يكشف ماركس عن شغفه بعلم الإنسان بدافع إيمانه بأن الشيوعية المستقبلية ستكون عودة لمستوى أعلى من شيوعية ما قبل التاريخ وكتب «الاتجاه التاريخي لعصرنا هو الأزمة القاتلة التي يمر بها الإنتاج الرأسمالي في الدول الأوروبية والأمريكية حيث وصل إلى ذروته، وهذه الأزمة ستنتهي بتدمير نمط الإنتاج الرأسمالي، وعودة المجتمع الحديث إلى أعلى شكل من الأشكال القديمة للجمع والالتقاط»[194] مُضيفاً «حيوية المجتمعات البدائية كانت أكبر بما لا يقاس من حيوية المجتمعات السامية واليونانية والرومانية وغيرها، وبعبارة أوضح حيوية المجتمعات الرأسمالية الحديثة».[195] قبل وفاته، طلب ماركس من إنجلز كتابة هذه الأفكار التي نُشرت عام 1884 تحت عنوان أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة.
نقلا عن الموسوعة العلمية