
لماذا المسئولين فى بلادنا ينتشر فيهم الكذب والنفاق وإخلاف الوعد والتملق والخداع هل هذا السلوك يصلح لبناء بلد ويساهم فى التقدم كيف نتقدم ونحن نستخدم أدوات التخلف هل يعلمون أن الكذب والنفاق والتملق وإخلاف الوعد والخداع فضلا عن كونها من المحرمات الشرعية فى جميع الأديان السماوية وخاصة ديننا الحنيف الذي يعتمد على الصدق والصراحة والوفاء بالعهد والوعد ، لماذا المسئولين العامين فى الأمم الأخرى الغير مسلمة يكثر بينهم الصدق والشفافية والصراحة وعدم التملق والنفاق فى معاملاتهم بينما نحن الموريتانيون مسئولين تنتشر فيهم هذه العادات السيئة والمحرمة شرعا ؟ اعتقد أن هذا من اسباب تخلف بلادنا فلو وجدنا مسئولين مؤمنين بالله وصادقين مع أنفسهم ومع مواطنيهم لكنا تقدمنا اشواطا معتبرة فى مسيرة التقدم والإنماء لقد لاحظنا مع كل الأسف أن ظاهرة الكذب والنفاق وعدم الوضوح منتشرة فى اروقة إداراتنا وفى مسؤولينا وهذا معوق بلا شك لمسيرة بلادنا نحو الرقي والتقدم إنهم يكذبون ثم يكذبون والكذب اصبح عندهم عادة كشرب الشاي بل وكشرب الماء كذبون فى الليل ويكذبون فى النهار ويكذبون فى العمل ويكذبون فى البيت يكذبون على الرؤساء وربما يكذب الرؤساء معهم أيضا ويكذبون على زوجاتهم وعلى أولادهم وعلى أقاربهم وعلى قبائلهم وعلى جميع المواطنين يكذبون فى المشاريع وفى الصفقات وفى الفواتير وفى الضرائب وفى الجمركة وفى المواعيد وفى الشهادات وفى السير الذاتية وفى الرواتب والمستحقات يكذبون حتى فى لاشيء لأن الكذب اصبح من أخلاقهم ومن عاداتهم المترسخة فى سلوكهم
لم تتقدم أمة أبدا فى مسيرتها إلا بالصدق والأمانة والعدل وإعطاء كل ذي حق حقه وكل ذي منزلة منزلته
وهذه جملة من الدروس عن الصدق والكذب نقلناها من شبكة الألوكة لكي تعرفوا قيمة الصدق وماجاء به فى القرآن العظيم ثم فى اللغة العربية التى نزل بها القرآن العظيم
لقد ورَد الصِّدق في القرآن الكريم بمشتقَّاته في (127) موضعًا، في كتب الوجوه والنظائر دُرِس لفظ "الصادقين"، ولم نجد "صدق"، لكن بتتبُّع مواضع اللفظ، تجمَّع لنا معانٍ من مشتقات وردتْ في القرآن الكريم، وهي:
1- الصِّدْق: في قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ﴾ [الزمر: 32]، فلمَّا ذكر الكاذب والمكذب مع جنايتِه وعقوبته، ذكَر الصادق والمصدِّق مع ثوابه[6].
فهنا الصِّدق ذُكر مقابلاً للكذب، وكان اللفظ بصيغة المصدر، وهو كتاب الله تعالى الذي جاءَ به الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهنا وصف الوحي وشرع الله كله بالصِّدْق[7].
وورد بصيغ: (صِدْقًا، صِدْقُهم، صِدْق).
2- صدَّق: وهذا بصيغة الفِعل ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 33]، وهنا مِثل ما سبقَها خلاف الكذِب، والتصديق يكون بالاتِّباع، فلا يُسمَّى المصدِّق مصدِّقًا بمجرَّد اعترافه بصحة الادِّعاء، ولكن باتباعه للدعوة، بدليل قوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 103 - 105]، فجعله مصدِّقًا بمجرَّد العزم وإنْ لم يذبْحه[8]؛ فإبراهيم - عليه السلام - لما رأى الرُّؤيا لم يُكَذِّبها، بل صدَّقها لكن لم يُوصَفْ بالصِّدق، حتى عزَم على تطبيقها.
وورد بصيغة: مُصَدِّق، صَدَّقْت، المُصَدِّقين، تَصْدِيق، صَدَق.
3- صَادِق: بصيغة فاعل: ﴿ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23]، فالصِّدق هنا كان في الدعوَى، لكن الله تعالى طلب إثباتَه بالفِعل، والمتَّقون قاموا بما أُمروا وانتهوا عمَّا حُرِّم عليهم فوُصِفوا بالصدق، فكان الالتزام بالشريعة علامةً على الصدق.
ورد في صِيغ: صادق، صَادِقُون، صَادِقين، الصَّادِقات.
4- أصدق، صَدَق: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [الزمر: 74]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾ [النساء: 122]، فالصِّدق هنا وصْف للقول، وهو بمعنى الوفاء بالوعْد في الآية الأولى، وجاء اللفظ بصيغ: أَصْدَق، صَدَق.
5- الصِّدِّيق: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 41]، فالصدِّيق هو الكثيرُ التصديق والقويُّ في إيمانه، أو الكثير الصِّدق، وكلاهما يجتمعان في الخليل - عليه السلام -[9] غير أنَّ الصِّدِّيق أعلى درجةً من الصادق، يلاحظ في قوله تعالى عن إسماعيل: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ﴾ [مريم: 54]، وصفه بالصِّدق مع كون جميعِ الأنبياء كذلك، لكن خصَّه بالذِّكْر؛ لاشتهاره به وصِدقه مع أبيه في تحمُّل الذبح[10]، فإبراهيم - عليه السلام - جمَع الله له بين الصِّدِّيقيَّة والنبوَّة.
والصِّديق: الصادِق في أقواله وأفعاله وأحواله، المُصدِّق بكلِّ ما أُمِر بالتصديق به، وذلك يستلزم العلمَ العظيم الواصل إلى القلْب الموجب لليقين[11]، وجمع لإسماعيل بيْن الرِّسالة والنبوَّة، فالأولى تَقْتضي التبليغ، والثانية تقتضي إيحاءَ الله له، وإبراهيم - عليه السلام - أعْلى مقامًا من ابْنه إسماعيل؛ فهو مِن أُولي العزْم، فكانتْ صِفاته أرفعَ مِن صفات ابنه، كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: 253].
ورد اللفظ بصيغ: الصِّدِّيق، صِدِّيقة، الصِّدِّيقون، صِدِّيقًا، الصِّدِّيقين.
6- الصَّدِيق: ﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ [النور: 61]، فالصديق أُذِن له هنا في الأكْل مِن دون إذن؛ لأنَّ العادة جرَتْ معه بالمسامحة في الأكْل من بيت صَديقه، والمصادقة من المحبَّة والخلَّة التي تُذْهِب الكلفةَ، وتُضفي التسامُح بين الأصدقاء، وورد اللفظ: صديق، صديقكم، صديقًا.
7- الصَّدَقات: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]، والصَّدقة ما أُعطي في ذات الله للفقراء.
ورَد اللفظ بالصِّيغ: الصَّدَقات، صدقاتكم، صدقاتهن، الصَّدقة.
8- الصَّدَاق: ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء: 4]، والصَّداق: هو مهْر المرأة.
مِن ذلك نلاحظ أنَّ الصِّدق والكذِب أصلهما في القول، ماضيًا كان أو مستقبلاً، وعْدًا كان أو غيْره.
ولا يكونان بالقصْد الأوَّل إلاَّ في القول، ولا يكونان في القول إلاَّ في الخبر دون غيرِه مِن أصناف الكلام؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾ [النساء: 122]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ﴿ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ﴾ [مريم: 54].
وقدْ يكونانِ بالعَرْض في غيره مِن الكلام كالاستفهام والأمرِ والدُّعاء.
فالصدق مطابقةُ القول للضمير والمُخْبَر عنه معًا، ومتَى انخرَم شرْط مِن ذلك لم يكن صِدْقًا تامًّا، فإمَّا أن يُوصَف بالصِّدق أو بالكذِب، أو لا يُوصَف بأحكامها لعدمِ كمال المطابقة[12]؛ أي: مطابقة القول والخبر، فالإنشاء لا يُوصَف بالصِّدق ولا بالكذِب، والخبر وحْده هو الذي يُسمح فيه بالوصفَين أن يُقال: "مطابقة الحُكم للواقِع"[13].
كما عرَّف البعض الصدق بأنَّه إخبارٌ عن المخبَر به على ما هو به مع العِلم بأنَّه كذلك، وفي قوله تعالى: ﴿ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [المجادلة: 14]، هذا التقييد دليلٌ على أنَّ الكذب يعمُّ ما يعلم المُخْبِر عدم مطابقته وما لا يعلم، ولا واسطة بينهما، وهو كلُّ خبَر لا يكون عن بصيرة المخبر عنه، فيكون افتراءً، والافتراء أخصُّ مِن الكذب.
فالصِّدق في القرآن كان وصفًا للقول والكلام، وهو مخالِف للكذب، لكن في القرآن وصف الفعل كذلك بالصِّدق، حيث جعل دليلاً عليه، فالصِّدق في الوعْد هو مطابقة الكلام للفِعل، والتصديق ورد في القرآن بالاتِّباع العملي؛ لذا لم يوصفْ إبراهيم - عليه السلام - بتصديق الرُّؤيا أوَّل ما أقرَّ أنها حق، بل حتى عزَم على الفعل، ما وصف المنقول صدقًا في قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾ [الزمر: 33]، فهنا الفاعِل هو محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر - رضي الله عنه - وقيل: المؤمنون كافَّة.
فوصف الوحي بأنَّه "صِدق" مِن قرآن وسُنَّة؛ أي: إنَّ الأوامر والنواهي وصفتْ بالصِّدق؛ لأنَّها على استقامة وصلابَة منهج، والتصديق بأوامرِ الله يكون باتِّباعها.
ورد لفظ الصديق في القرآن الكريم على أنَّه مِن علامات المحبَّة التي تُذْهِبُ التكلُّف، بجواز دخول البَيت والأكْل معهم أو دونهم[14].
فصلابةُ العلاقة واستقامتها تُبيح للطرَفين ما لا تُبيح لغيرهما مِن العلاقات؛ لأنَّ الصِّدق في المحبَّة والأقوال والأفْعال يرفع الحواجِز بيْن الطرفين ويَتنازل كلٌّ منهما عن بعضِ حقوقه للآخَر.
أمَّا الصدقات، فهنا انتقل الوصف إلى المادي؛ حيث كان كلُّ مال قُدِّم لوجه الله تعالى بنيَّة صادقة ومخلِصةٍ - صدَقةً، فانتقل المعنى المعنوي للنيَّة إلى المال، وهو مِن علامات الاستقامة مع الله تعالى والقُرْب منه.
ثم نُقِل المعنى إلى العَلاقة الماليَّة للزواج بيْن الرجُل والمرأة، فسُمِّي المال المقدَّم للزوجة - وهو المهر - بالصَّداق، حيث أخذ معنَى الصلابة؛ لينتقل إلى الميثاق بيْن الزوجين والاستقامة في القصْد مِن الرجل نحو المرأة، فكان صِدق الفِعل بإعطاء الحقِّ المشروع للمرأة.
نخلُص إلى بعض النقاط الجامِعة لما سلَف:
1- الصدق هو الكامل مِن كلِّ شيء؛ لذا كان مِن أوصاف ما نزَل على الأنبياء أنَّه صدق لكماله.
2- التصديق في القرآن الكريم لا يكون بإقرارِ صحَّة القول فقط، لكن بالالتزام به.
3- الصِّدق في القرآن الكريم في القول هو الإخبار عن مُخْبَر كما هو في الواقع، مع العِلم بأنَّه كذلك، ومطابقة الضمير له، فزاد شرْط العلم.
4- الصِّدق في القول بمجانبة الكذب، وفي الفِعل بإتيانه وعدم الانصراف عنه قبلَ إتمامه، وفي النيَّة العزم والثَّبات حتى بلوغ الفِعل، والصِّدق في الذاكرة قوَّتها على الحِفظ.
5- الصديق مَن صدق النيَّة في المحبَّة والمعاملة.
6- الصَّدقة كل مال صدق التوجه به إلى الله تعالى.
مفهوم الكذب: الكاف والذال والباء، أصلٌ صحيح يدلُّ على خلاف الصدق، وتلخيصه أنَّه لا يبلغ نهاية الكلام في الصِّدق.
وكَذَّبه نسَبه إلى الكَذِب، وكَذَب عليك الأمر: وجَب عليك[15].
وله مشتقَّات عدَّة منها: كِذْبة، وكَذْبَة، كِذَاب، كِذَّاب، ويقال: كاذِب وكَذَّاب وتِكِذَّاب، ومَكْذَبانَةٌ وكُذُبْذُبان، والأُكْذُوبة والكُذْبى والمكْذُوب والمكْذَبَة، والكَذوب.
و المَكْذُوبَة: المرأة الضَّعيفة[16].
وكَذَبَ لبَن الناقة؛ أي: ذهب[17].
وكَذَبَت العين: خانها حِسُّها، وكَذَب الرأي: توهم الأمْر بخِلاف ما هو به.
وكَذَبَتْهُ نَفْسُه: مَنَّتْه بغير الحق، وكَذَّب إذا حمَل على العدوِّ: جَبُنَ في القتال.
ويأتي بمعنى الخطأ؛ لأنه يشبهه في عدم الصواب، وإن افترقَا من حيث النيةُ والقصد[18].
ورد لفظ الكذب في القرآن الكريم في (251) موضعًا، على (6) أوجه[19]، وهي:
1- النفاق: في قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1].
2- القذف: ﴿ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النور: 7].
3- الرد: ﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [الواقعة: 2]؛ أي: ليس لها راد.
4- الجحود: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11].
5- التكذيب: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ﴾ [ق: 5].
6- الافتراء: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ﴾ [الزمر: 60].
فالكذِب هو إخبارٌ بما لا يُطابق الواقع[20]، فيكون الكذب متعلقًا بالقول على وجه أخص بالخبر دون سائرِ صِيغ الكلام[21].
نجِد في القرآن الكريم أنَّ الله تعالى وصَف النفاقَ بالكذب، فكان معنى الكذب واقعًا على الحال، حيث إنَّ حالهم من أقوالهم وأفعالهم يخبر بخلاف ما في ضمائرهم، وعكس ما يقرُّ في قلوبهم، فالنِّفاق إظهارُ الخير وإبطان الشر، ويدخُل في هذا الاعتقادي منه والعَملي.
والأول: هو ما ذُكِر في الآية، وهو مُخرِج من الملَّة، فالمنافقون يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأكذبهم الله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8]، ثم وصفَهم تعالى بالخداع، وهو مِن سلوكيات النِّفاق؛ بأن يسلك الفردُ وجهةً وهو يريد أخرى؛ ليتمكَّن من مقصوده، بعدَها وصفهم بأنهم مرْضى القلوب، بالشكِّ والشبهات والشهوات المُرْدِية، ثم ختَم كل تلك الصفات بقوله تعالى: ﴿ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]، فادِّعاؤهم الإيمانَ حالاً ومقالاً كان كذبًا وخلافًا لواقعهم.
ثم نجِد الله تعالى يتوعَّد مَن كذبوا عليه يوم القيامة، وهؤلاء ادَّعوا بأنَّ لله شركاءَ وصاحبةً وولدًا، لكن إذا أجرينا عليهم تعريفَ الكذِب الأوَّل، ففي مفهوم الآية الْتِباس؛ حيث فُقد شرْط، وهو مطابقة القول للاعتقاد، فهُم اعتقدوا ذلك اعتقادًا جازمًا؛ لذا لا يصحُّ التعريف اللُّغوي عليهم بأنْ يُوصفوا بالكذِب، بل يُوصفون بالخطأ أو الضلال، لكن في آية أخرى قال تعالى: ﴿ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [المجادلة: 14]، وفي هذا القيد أنَّ الكذب هنا يشمل ما يعلم الكاذب أنَّه كذب وما لا يعلم، فيكون خلافه - وهو الصِّدق - إخبارًا عن المخبَر به على ما هو به مع العِلم بأنَّه كذلك، فالكاذب على الله قال عنه بغير عِلم، وهذا مِن أكبر الكبائر، بل هو أكبرها، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 75]، وهذا أعْظم مِن القول على الله بغير علم، أمَّا ما بقِي على بابه فكان في قوله تعالى عنِ القاذف للمحصنة: ﴿ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النور: 7]؛ أي: يَزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة، مؤكِّدًا تلك الشهادات بأن يدعوَ على نفسه باللعنة إنْ كان كاذبًا، فإذا تَمَّ لِعَانُه سقَط عنه حدُّ القذف[22]، فالكذب هنا كان: فيما رَمَاهَا به مِن الزِّنا[23].
نجِد أنَّ التكذيب - وهو وصفٌ للقول بالكذب - كان للسانِ والقلْب والفعل.
فالأوَّل: ورَد في قوله تعالى: ﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا ﴾ [النبأ: 35]؛ أي كَذِبًا، وهي لُغة يمانيَّة فصيحة[24].
والثاني: وهو بالقلْب في قوله تعالى: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11]؛ أي: لم يتوهَّم ولم يَرُدَّه، ففؤاد محمَّد - عليه الصلاة والسلام - صادق، فتكون عينُه أصدق، وهذا هو المعتاد عندَ البشر[25].
والثالث: في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [الواقعة: 2]؛ أي: مكذبة، وقوعها لا شكَّ فيه؛ لأنَّها قدْ تظاهرتْ عليها الأدلَّة العقليَّة والسمعيَّة، ودلَّتْ عليها حِكمتُه تعالى[26].
وقد وردتْ صِيغ للكذِب في القرآن الكريم، منها:
1- الإكْذَاب: في قوله تعالى: ﴿ حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِّبُوا ﴾ [يوسف: 110]، قالت عائشة - رضي الله عنها -: حتى إذا استيئس الرسل ممّن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك، وتقرأ بالتخفيف، وهي عند عاصم وحمزة والكِسائي: كُذِبُوا، رُوي عن ابن عباس: كانوا بشرًا، قال أبو منصور: إنْ صح هذا عنِ ابن عباس فوجهه عندي - والله أعلم - أنْ الرسل خطَر في أوهامهم ما يخطُر في أوهام البشَر من غير أن يكونوا حَقَّقُوا تلك الخواطرَ ولا ركنوا إليها، ولا كان ظنُّهم ظنًّا اطمأنوا إليه، ولكنَّه كان خاطرًا يَغْلِبُه اليقين، وهذا متجاوَزٌ عنه.
2- كَاذِبَة: ﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [الواقعة: 2]؛ أي: ليس يردُّها شيء، كما تقول: حَمْلَةُ فلان لا تَكْذِب؛ أي: لا يَرُدُّ حملتَه شيء، وهي مصدر، فهي اسمٌ وُضِع موضعَ المصدر.
3- كِذَّابا: ﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا ﴾ [النبأ: 35]؛ أي: لا يُكذِّب بعضُهم بعضًا، وهي لغة يَمانية فصيحة، ووردتْ كذا في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ﴾ [النبأ: 28].
4- كذب: في قوله تعالى: ﴿ وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [يوسف: 18]؛ لأنَّ يعقوب - عليه السلام - لما رأى القميصَ قال:كذبتُم؛ لو أكَلَه الذئب لمزّق قميصه.
قال الفرَّاء: بدم كذب، معناه مكذوب، والعرَب تقول للكذب: مكذوب، وللضَّعف: مضعوف، وللجلد: مجلود، فيجعلون المصادرَ في كثيرٍ مِن الكلام مفعولاً[27].
فالكذِب هو الإخبار عن الشيءِ بخلاف ما هو مع العِلم به، وقصد الحقيقة، فخرَج بالأوَّل الجهْل، وبالثاني المجاز[28]، وهو يعمُّ ما يَعلم المخبر عدم مطابقته وما لا يَعلم؛ بدليلِ التقييد في قوله: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ [آل عمران: 75] بقوله: ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 75]، ويستعمل "الكذب" كوصفٍ غالبًا في الأقوال، والحقُّ يكون في المعتقدات.
نخلص إلى نِقاط جامعة لما سلف:
1- يقال "الكذب" في المقال والفِعال والاعتقاد.
2- قد يُنسب "الكذب" إلى نفْس الفِعل كقوله تعالى: ﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ ﴾ [العلق: 16].
3- ما جاء في القرآن غالبه في تكذيب الصادِق نحو: ﴿ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾ [النبأ: 28]، ﴿ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ [المؤمنون: 26]، ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ﴾ [الحاقة: 4]، ﴿ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [القمر: 3]، بعدها قال: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴾ [القمر: 4]، و﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [القمر: 9]، بعدها: ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ ﴾ [القمر: 18]، ثم: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ﴾ [القمر: 23]، ثم: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ﴾ [القمر: 33]، وفي الرحمن: ﴿ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 13] (31) مرَّة.
4- كَذَّب تكذيبًا؛ أي: أنْكر وجحد، أما كَذَّبَه فجعله كاذبًا في كلامه أو حاله، فالأوَّل متعدٍّ بالباء والثاني بنفسه؛ ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11].
مفهوم الإفك: الهمزة والفاء والكاف أصلٌ واحد، يدلُّ على قلْب الشيء، وصَرْفِهِ عن جهته، يقال: أُفِكَوأَفِكَ الرجل إذا كذَب، والإفْك الكذب، وأَفَكْتُ الرجلَ عن الشيء إذا صرفتَه عنه[29]. الشيء.
المُؤتفكات: مدائن قُلِبت على قوم لوط، والرِّياح التي تقلِب الأرض. وأَفَّك فهو أَفَّاك وأَفيك وأفوك، وعنه يَأْفِكُهأفْكًا: صرَفه وقلَبه، أو قلَب رأيه[30].
والمأفُوك: المأفون، وهو الضعيف العقل والرأي[31].
ورَد لفظ الإفك باشتقاقه في (30) موضعًا من القرآن الكريم، على (7) وجوه[32]، وهي:
1- الكذب: في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴾ [الأحقاف: 11].
2- العبادة الباطلة: ﴿ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ﴾ [الصافات: 86]؛ أي: أتريدون آلهةً مِن دون الله للإفْك، والإفك هنا أسوأُ مِن الكذب[33].
3- ادِّعاء الولَد لله - تعالى عمَّا يقولون -: ﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الصافات: 151 - 152].
4- قذْف المحصنَات: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾ [النور: 11].
﴿ لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12]، ووصف ذلك الإفْك بالبُهتان: ﴿ وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16].
5- الصَّرْف: ﴿ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴾ [الذاريات: 9]؛ وفي الأحقاف: ﴿ لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ﴾ [الأحقاف: 22].
6- التقليب: ﴿ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ﴾ [النجم: 53].
7- السحر: ﴿ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ [الأعراف: 117].
بتتبُّع الألفاظ والأوْجه نرى أنَّ الإفك في غالِب ما ورَد كان بمعنى الكذِب، وهو مِن أنواعه وأسوئِها، وما وُصف به هو الكذب في عظائمِ الأمور، فوصَف الله تعالى ادعاءَ الشركاء له بأنَّه إفْك وادِّعاء الولد، والإفْك هنا قلبُ الحقائق الواضحة البيِّنة، وهو أشدُّ مِن الكذب، فالآية كانت بهذا السِّياق: ﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الصافات: 151 - 152]، فإنْ قلنا: إنَّ الإفك هنا بمعنى الكذِب فما فائدةُ وصفهم به، وتكذيبهم هنا؟ فمَعْنى الإفْك القلْب والصَّرْف عن الجِهة الحقيقيَّة للكلام، فوصف ذلك القلْب بأنَّه كذِب، كما سمَّى الله تعالى قذْف أمِّ المؤمنين الحَصان عائشة - رضي الله عنها - بالإفْك؛ وذلك لعِظم الأمر وخُطورته، ثم اتَّهم ﴿ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ ﴾ بأنهم ﴿ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ ﴾ بعدها وصف ذلك الإفْك بأنه ﴿ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾، وأنَّ النيَّة من ورائه إشاعة الفاحشة، فقال عن أصحاب الإفك: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 19].
فالبُهتان هو أن يتهم الآخَر بما لم يَفعل في غَيبته مع علمه بأنَّه كاذب في ما قاله، فهو مِن أنواع الكذب، والإفْك أشدُّ من الكذب، والبهتان أشدُّ منه، فكلُّ إفك كذب، وليس كل كذب إفكًا، فالإفك هو الكذب للإضرار بالغير؛ لذا كان كذبًا يراد منه سوء؛ لأنَّ الكذب قد يكون لدفْع ضرر أو جلْب منفعة، لكن الإفك للإضرار بالغير؛ لذا في الآيات اتَّهم الله تعالى عُصبةَ الإفك بسوء القصْد؛ حيث إنَّهم يبغون إشاعةَ الفاحشة في المؤمنين.
والبهتان كذبٌ متعمَّد باطله محير وعجيب؛ لذا وُصف الإفك بأنَّه كذلك ولم يرد العكس، غير أنَّ الإفك قد يفقد أحد شروط الكذب، وهو اليقين، فالكاذب متيقِّن من خلاف الواقع لكلامه، أما الأفَّاك فهو يقلب الحقائق ويصرف وجهَها؛ حتى لا يُتَيَقَّن بأنَّ كلامه خلافُ الواقع؛ لذا قال عنهم الله تعالى: ﴿ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [النور: 15]، فرغم عدم عِلمهم بأنه كذب وصف الله ما تناقلوه بأنَّه إفك، ثم وصفَه بأنه كذب، فتوافَر شرطان: أنَّه قلب للحقائق مع صرْف للقَصْد، والكلام بغير علم، وهذا عَدَّه الله تعالى مِن الكذب وإنْ كان لغةً يشترط العلم - كما أسلفنا في مفهوم الكذب - لكن مفهوم الكذب في القرآن يتناسق مع هذا كلِّه.
كذا نجِد أنَّ السحر وُصِف بأنَّه إفك؛ قال تعالى: ﴿ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ [الشعراء: 44 - 45].
أمَّا في طه: ﴿ قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 68 - 69]، قبلها قال تعالى عن سِحرهم: ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ [طه: 66]، فهنا حدَث قلب للصورة الحقيقيَّة للحبال[34]، فلو أردْنا أن نفسِّر (يأفكون) بـ(يكذبون)، لما وقَع المعنى على ما يُقاربه، لكن الواضح أن الإفك كان هنا القَلْبَ بالتخييل؛ فيبقى على أصله اللغوي.
و من معاني السحر أنه يصرف القلوب إليه[35].
نخلص إلى نقاط جامعة لما سلف:
1- الإفك هو الكذب المراد به السوء، عن علم أو عن غيره.
2- الإفك أشد من الكذب، والبهتان في السوء أشد منه.
3- الإفك يدل على قلب الأمور وصرفها عن جهتها الأصلية، وهذا غالب ما ورد به في القرآن الكريم.
4- أشد من الإفك الافتراء؛ لأن الأول قد يكون له أصل، أما الثاني فهو مُختلق لا أصل له وهو عجيب.
مفهوم الافتراء: من "فري" الفاء والراء والحرف المعتل: عظْم الباب قَطْعُ الشيء.
ثم يفرَّع منه ما يقاربُه؛ من ذلك: فَرَيتُ الشيء أفرِيه فَرْيًا، وذلك قَطْعُك له لإصلاحه.
قال ابن السكّيت: فرى، إذا خَرَز، وأفريته إذا أنت قَطَعْتَه للإفساد.
ومن الباب: فلان يَفْرِي الفريَّ، إذا كان يأتي بالعجب، كأنه يَقْطع الشيء قطعًا عجيبًا[36].
فَراهُ يَفْرِيهِ: شَقَّهُ فاسِدًا أو صالِحًا، كَفَرَّاهُ وأفْراهُ، والكَذِبَ: اختلقه؛ والفِرْيَة: الكذب[37].
وأَفْرَى الأديم: قطعَه على جِهة الإفساد؛ وفَرَاه: قطعه على جِهة الإصلاح[38].
ورد لفظُ الافتراء في القرآن الكريم في (60) موضعًا، لم نجد أوجهًا لها في كتُب الأوجه والنظائر؛ لذا تتبعْنا صيغَها، فكانت كالتالي:
1- افتراء للكذب: وردتْ هذه الصيغة في آيات عدَّة، منها: ﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 94]، وقوله تعالى: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 50]، وفي جميع الآيات ورَد بعدَ لفظ الافتراء لفظ الكذِب، فالافتراء غالبًا لا يكون إلاَّ للكذب، بمعنى اختلاقه مع احتمالِ اللفْظ للكذب، فمجرَّد أنَّه اختلاق دلَّ على مخالفتِه للحقيقة، غير أنَّ مِن معانيه الإتيان بالعجب، كأنَّه يقطعه عن أصْله وحقيقته.
لكن شرط العِلم ناقص؛ لذا أُضيف الكذِب، فقد يكون بعضُه ليس كذبًا؛ أي: عن جهْل.
2- افتراء الإثْم: كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48].
3- افتراء القرآن: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 37].
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [هود: 13].
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].
4- الأمر العظيم العجب: ﴿ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴾ [مريم: 27].
5- افتراء السحر: ﴿ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرًى ﴾ [القصص: 36].
6- افتراء الإفْك: ﴿ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرًى ﴾ [سبأ: 43].
7- افتراء البُهتان: ﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ [الممتحنة: 12].
بتتبُّع مواضع اللفظ نلاحظ أنَّه غالبًا ما يجرُّ معناه إلى غيره بحرْف المعنى "على"، كما أنَّ الافتراء هو خلاف الصِّدق (يوسف: 111) و(هود: 13) وغيرها، فالفري الإتيان بالعجب كالتقطيع، وقد يكون للإصلاح، والإفْراء للإفساد، والافتراء فيهما[39]؛ لذا كان غالبُ موارده في القرآن أنَّه عُلق بقرينة تدلُّ على الإفساد بأن جعل الافتراء إمَّا للكذب، أو للإثم، أو الإفْك، أو البُهتان، أو السِّحر، أو الظلم؛ فالافتراء هو العظيم مِن الكذب؛ لذا يُقال لمن عمل عملاً فبالغ فيه: إنَّه يَفري الفِرَى، ومعنى افترى: افتَعَل واختلق ما لا يصحُّ أن يكون، وما لا يصحُّ أن يكون، أعمُّ مما لا يجوز أن يُقال، وما لا يجوز أن يُفْعل[40].
مِن خلال الآيات الواردة نَفْهم أنَّ الافتراء هو أعظمُ درَجات الكذب؛ لأنَّ درجاته كلَّها ألحقتْ به، فكان الافتراء للبُهتان والإفْك والكذب، وهذا راجع لأنَّها كلَّها ذات أصْل إلاَّ الافتراء، فهو كلامٌ لا أصلَ له.
نخلُص إلى نِقاط جامِعة لما سلف:
1- الفرى للإصلاح، والإفْراء للإفْساد، والافتراء فِيهما، وفي الإفْساد أكثر استعمالاً في القرآن.
2- استعمل الافتراء في القرآن في الكذِب والإفْك والبُهتان والشِّرْك والظُّلم.
3- الافتراء هو أعظمُ الكذِب وأعْلى درجاتِه.
مفهوم البُهتان: الباء والهاء والتَّاء أصلٌ واحِد، وهو كالدهش والحَيْرة[41]. وبَهَتَهُ: قال عليه ما لم يفعلْ، والبَهيتَةُ: الباطِل الذي يُتَحَيَّر مِن بطلانه. والبَهتُ: الأخْذ بغتة، والانقطاع والحيرة[42]، وبَهِتَ: دهش وتحير، وأفْصح منها بُهِت بالضم[43]، وهو بمعنى أُخِذَ بالحجَّة فشَحَب لونُه، يقولون: ثوب باهت، ولون باهت؛ أي: شاحِب، والبهتان: الكذب المفترى[44].
ورد لفظ البُهتان مع اشتقاقاته في (6) مواضع، على (4) أوجه[45]، هي:
1- الزِّنا: ورد في قوله تعالى: ﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَه ﴾ [الممتحنة: 12]؛ أي لا يلحقْنَ بأزواجهنَّ غير أولادِهم؛ قاله ابنُ عبَّاس والجمهور[46]، فالبُهتان هنا الافتراءُ على الزوج بالولَد[47].
2- الكذب: قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16]، يعني: كذبًا صريحًا.
3- المال الحرام: ﴿ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 20].
4- الدهْشة والخسران: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ [البقرة: 258].
فالبُهتان كان معناه في القرآن الكريم شاملاً لمعاني الباطِل والكذب والدهشة والحيرة، فآية الممتحنة ورد فيها أنَّ الأولاد المنسوبين لغير آبائهم من طرَف الزوجات هم البُهتان المفترى، فوصف البُهتان بالافتراء؛ أي: إنَّ الزوجات نسبْن لأزواجهنَّ ما لم يفْعلوا، وفي الآية البُهتان أشدُّ مِن افتراء الكذب؛ لأنَّ الافتراء متعلِّق بقائله وما يخصُّه، لكن البهتان يتعدَّى إلى الغير، فالأول كذب لا يتعدَّى، والثاني كذبٌ على الغير، فيكون كلُّ بهتان افتراءً، وليس كل افتراء بهتانًا.
وعرَّف البعض البهتان بأنَّه الكذب المفترى.
أمَّا في آية النور، فبَيَّن أنَّه اتِّهام الغير بما لم يفعلوا في حالِ غِيابهم، وبمعنى الباطِل المحير والمثير للدهْشة بدليل قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16]، فالتسبيح هنا كان للتعجُّب مِن أولئك الذين جاؤوا بالإفْك[48].
ووُصف الإفْك بأنَّه مبين؛ ﴿ لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12]؛ أي: كذِب مكشوف؛ لأنَّه قلْبٌ للحقائق الواضِحة.
بينما وصف البهتان بأنَّه عظيم؛ لأنَّه باطل ذُكر بغتةً، فحارتْ معه العقول، واندهشتِ القلوب، فكان تأثيره عجيبًا حتى إنَّه وقَع فيه قومٌ كرام.
كذا وصف البهتان بأنَّه عظيم فسبق بقوله تعالى: ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15]، أمَّا الإفك فكان تِبْيَانه بطلب الشهادة مِن أربعة شهداء، كما وصف أخْذ المال بغير حق بالبهتان والإثم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 20]، فكان معنى الكلام: أتأخذونه مباهتين آثمين، فكان بمعنى المباهتة؛ أي: إثارة الدهْشة والحيرة بفِعْل هذا الباطل، فقد فسَّر الزجَّاجُ البهتانَ هنا بالباطل[49].
قال القاضي أبو يعلَى: وإنَّما خصَّ النهي عن أخْذ شيء ممَّا أعطى بحال الاستبدال، وإنْ كان المنع عامًّا؛ لئلاَّ يظن ظانٌّ أنَّه لما عاد البُضع إلى ملكها، وجَب أن يسقط حقُّها مِن المهر، أو يظن ظانٌّ أنَّ الثانية أوْلى بالمهر منها لقيامها مقامها[50]، فكان هذا الحُكم باطلاً محيرًا، يبهت مَن يسمعه؛ لذا وصفه تعالى بأنَّه إثم وظلم بيِّن واضح[51].
كذا نجِد في القرآن الكريم وصف مَن أُخِذ بالحجَّة فتغير وجهه مِن الدهشة والحيرة في الردِّ بأنَّه مبهوت، والفاعل بَهَت وهو بُهِت: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ [البقرة: 258]، وكان سياق الآية: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، فانتِقال إبراهيم - عليه السلام - من الحُجَّة الأولى إلى الثانية وترْك نُصرة الأولى، كان لإدراكه ضعفَ فَهم المخاصم؛ لذا كانتِ الحجَّة الثانية محيرة ولم يجدْ مجادلُه جوابًا للرد.
هذا وقد ورد فى السنة النبوية أحاديث صحيحة تنص على تحريم الكذب وتجريم الكذابين منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : الكذاب ليس منا ، ومنها أنه سؤل عليه السلام هل المسلم يقوم ببعض الفواحش عددها السائل حتى قال هل يكذب فرد عليه النبي بقول لا ،
ومنها آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أتمن خان
واشهد أن هذه العلامة موجودة فى الكثير من المسئولين الموريتانيين وفى الكثير من المواطنين
وفى الإسلام ويب :
إن الكذب هو رأس الخطايا وبدايتها، وهو من أقصر الطرق إلى النار،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإيّاكم والكذِبَ، فإنّ الكَذِبَ يَهْدِي إلَى الفُجُورِ، وإِنّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النّارِ وَمَا يزَالُ العبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرّى الكَذِبَ حَتّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَذّابا".[رواه البخاري ومسلم].
والكذب إخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه. وهو مذموم عند كل العقلاء، ولو لم يكن من مضاره إلا أنه يجعل صاحبه في ريبة لا يكاد يصدق شيئًا لكفى، كما قال بعض الفلاسفة: من عرف من نفسه الكذب لم يصدِّق الصادق فيما يقول، ثم إن من عرف بالكذب فإنه لا يكاد يُصَدَّق في شيء أبدًا، وإن صدق، بل إن سمع الناس بكذبةٍ ربما خرجت من غيره فإنهم ينسبونها إليه:
حسب الكذوب من البلـ ـية بعضُ ما يُحكى عليه
فمتى سمعت بكـذبة مـ ـن غـيره نـسبت إليـه
دواعي الكذب وأماراته:
للكذب دواعٍ تدعو إليه وأمارات تدل عليه، ولا شك أن معرفة هذه الدواعي وتلك الأمارات مما يساعد في محاولة العلاج؛ لأن الخُطوة الأولى في علاج أي مرض تنحصر في معرفة أسبابه وتحديد أعراضه، للقضاء عليها والتخلص منه، وقد ذكر الماوردي من هذه الدواعي أو الأسباب:
1- اجتلاب النفع واستدفاع الضر، فيرى الكذَّابُ أن الكَذِبَ أسلمُ وأغنمُ، فيُرخِّصُ لنفسه فيه اغتراراً بالخُدع واستشفافًا للطمع.
2- أن يُؤْثِرَ أن يكون حديثُهُ مُستعْذبًا، وكلامُهُ مُستظرفًا، فلا يجد صدقًا يعذُبُ ولا حديثًا يُستظرفُ، فيستحْلِيَ الكذب الذي ليست غرائُزُه مُعْوزَةً ولا طرائِفُهُ مُعجزَةً.
3- أن يقصد بالكذب التشفي من عدُوِّهِ، فيسمُهُ بقبائح يخترعُها عليه، ويصفُهُ بفضائح يَنْسبُها إليه.
4- أن تكون دواعي الكذب قد ترادفت عليه حتى ألفها، فصار الكذب له عادةً ونفسُهُ إليه مُنقادةً.
5- حُبَّ التَّرَأُسِ، وذلك أنَّ الكاذِبَ يرى له فضلاً على المُخبر بما أعلمَهُ، فهو يتشبَّهُ بالعالِمِ الفاضل في ذلك.
أما أمارات الكذب فمنها:
- أنك إذا لقنته الحديث تلقنه ولم يكن بين ما لقَّنُتَهُ (إياه) وبين ما أورده فرقٌ عِندَهُ، أي أنه يَخْلِطُ بين ما سمِعَهُ منك وما اخترَعَهُ من عِنْدِهِ.
- أنك إذا شكَّكْتَهُ في الحديث تشَكَّكَ حتى يكادُ يرجعُ فيه.
- أنك إذا رددت عليه قوله حَصِر وارْتَبَكَ، ولم يكن عندهُ نُصْرَةُ المُحتَجّين ولا بُرهان الصادقين.
- ما يظهر عليه من ريبة الكذَّابين، ولذلك قال بعض الحكماء: "الوجوه مرايا، تُريك أسرارَ البرايا". وإذا اتَّسم بالكذبِ، نُسبتْ إليه شواردُ الكذِبِ المجهولةِ (أي الشائعات وما في حُكمها)، وأضيفت إلى أكاذيبه زياداتٌ مُفْتَعَلَةٌ، حتَّى يصيرَ هذا الكاذبُ مكذُوبًا عليه، فيجمعُ بين معرَّةِ الكذب منه، ومضرَّةِ الكذب عليه.
أنواع الكذب:
الكذب أنواع متعددة، فمنه ما يكون في الأقوال، ومنه ما يكون في الأفعال، ومنه ما يكون في النِّيات.
أولاً: الكذب في الأقوال:
وهو أن يخبر بخلاف الصدق، وبخلاف الواقع، وهذا أيضًا أشكال متعددة، تتفاوت في الإثم بحسب كل شكل منها، فأعظمها وأكبرها إثما الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) [الأنعام:21].
ومن ذلك التحليل والتحريم، بحسب الأهواء، لا بحسب الشرع المنزل من عند الله، ولهذا عنَّف الله الكفار حين ادعوا أن ما شرعوه من عند أنفسهم هو الشرع الذي أوحى به الله: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) [النحل:116].وقال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى:21)
والنبي صلى الله عليه وسلم حذَّر من الكذب عليه، فقال: "مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" [صحيح الجامع الصغير:6519].
ثم يأتي بعد ذلك الكذب على المؤمنين، ومنه شهادة الزور التي عدَّها النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر، وكم وُجد في عصرنا هذا من باع دينه وضميره وشهد شهادة زور، فأضاع حقوق الناس أو رماهم بما ليس فيهم، طمعًا في دنيا أو رغبة في انتقام أو تشفٍّ.
ومنه الكذب في المزاح ليُضحك الناس، وقد جاء في الحديث: "وَيْلٌ لِلّذِي يُحَدّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ". [رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسَّنه].
لا يكون المؤمن كذابا
ولا يُتصور في المؤمن أن يكون كذَّابًا؛ إذ لا يجتمع إيمانٌ وكذب، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أيكون المؤمن كذَّابًا؟ قال: لا". مع أنه صلى الله عليه وسلم قد قرر أنه قد يكون بخيلاً أو جبانًا، لكن لا يكون كذَّابًا.
فإن الكذب في الحديث من علامات النفاق: "آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خانَ".
والكذب ليس من شِيم الأكابر، بل هو من شِيم الأصاغر، الذين هانوا على أنفسهم فهان عليهم الكذب، ولو كانوا كبارًا في أعين أنفسهم لنأوا بها عن الكذب. قال الشاعر:
لا يكذب المرء إلا من مهانته أو فعله السوء أو من قلة الأدب
لبعض جيفة كلب خير رائحة من كذبة المرء في جدٍّ وفي لعب
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "لأن يضعني الصدق -وقَلَّما يضع- أحبَّ إليَّ من أن يرفعني الكذب- وقلَّما يفعل-".
ثانيًا: الكذب في الأفعال:
فقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث، أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود، وربما يكون الكذب في الأفعال أشد خطرًا أو أقوى تأثيرًا من الكذب في الأقوال، ومن أمثلة ذلك، ما حكاه الله لنا من أقوال وأفعال إخوة يوسف عليه السلام، إذ جاءوا أباهم عشاءً يبكون بكاءً كاذبًا.. وجاءوا على قميص يوسف بدم كذب، فجمعوا بين كذب القول وكذب الفعل.[الأخلاق الإسلامية 1/529].
ثالثًا: الكذب في النيات:
وهو أن يقصد بنيته غير وجه الله تعالى، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين تُسعَّر بهم النار: "الشهيد والمُنْفِقْ والعالِم". حين يدَّعِي كل منهم أنه فعل ذلك لوجه الله، فيقال لكل منهم: كذبت ولكن قاتلت ليقال جريء فقد قيل. وللآخر: كذبت ولكن تصدَّقت ليقال جواد. وللثالث: كذبت ولكن تعلمت ليقال عالِم.
فالكذب هو رأس كل خطيئة، وهو عارٌ على صاحبه .
يقول الشاعر :
لايكذب المرأ إلا عن مهانة / أو عادة السوء أو قلة الأدب
لسان الحال والمقال تأتيكم بالحكم والأمثال .