هل نحن عادلون هل نظامنا عادل هل قضاؤنا عادل وما هو العدل فى الإسلام وما ذا جاء فى القرآن

أربعاء, 11/30/2022 - 10:05

للإجابة على هذه التساؤلات سوف نستعرض بعض ما جاء عن العدل فى القرآن العظيم وما كان عليه فى زمن الخلفاء الراشدين
العدل هو الذي قامت عليه السماوات والأرض وأرسلت به الأنبياء والرسل واستقامت به الدول والظلم والجور هو سبب هلاك الأمم ونقص الخيرات وانعدام البركات ، هذا وقد حث القرآن العظيم على العدل فى غير ما آية
العدل في القرآن والعدل ـ بفتح العين ـ في اللغة هو الانصاف وإعطاء كل ما له حق حقه وأخذ ما عليه من حق ويقال رجل عدل وامرأة عدلة، وقد استعمل القرآن الكريم كلمة العدل في مقابل الظلم والبغي والجور واستعمله أيضا في مقابل الفسق والفجور، وقد ورد معنيين لهذه الكلمة أحدهما : العدل في الحكم والعلاقات وهو في هذا المعنى يتعدى معناه إلى الغير فيقال عدل بين الناس أو بين النساء أو عدل في أمرهم أو نحو ذلك فالعدل بهذا المعنى صفة له علاقة بذات الشخص ولكن تتجاوز آثاره إلى الغير، وثانيهما : العدالة الذاتية بان يكون المتصف بها مستقيما غير فاسق وفاجر وبهذا المعنى يستعملها الفقهاء في باب الشهادات ونحوها .
والنظام العادل يكون قضاؤه عادل والنظام الجائر يفسد قضاؤه فساد الطعام فى البطن
قال تعالى :

♦ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء:

♦ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].

♦ ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة:

♦ ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام:

♦ ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف:

♦ ﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف:

♦ ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 76].

♦ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل:

♦ ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل:

♦ ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴾

♦ ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص:

♦ ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [الشورى:

♦ ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات:

♦ ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾ [الرحمن: 7 - 9].

♦ ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد:
وقال تعالى :
♦ ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾
أوجب الله العدل وجوبا مطلقا وأمر بتحقيقه في الأقوال والأفعال والتصرفات والحكم والفطرة والتقييم والشهادة والعلاقات وتكررت كلمة العدل ومشتقاته ثمان وعشرين مرة في القرآن الكريم , فتارة يذكر الله العدل الذي جائت به الرسالات السماوية فقال تعالى في سورة الحديد ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) , وتارة يذكر العدل في المعاملات بين الناس يقول تعالى على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سورة الشورى ( وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) , وتارة يذكر العدل في الأحكام قال تعالى في سورة النساء ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) , ومرة يذكر العدل بالمساواة في المكافأة إن خيرا فخير وإن شراً فشر والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه والشر بأقل منه أو بالإحسان كما قال تعالى في سورة فصلت ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي ادفع السيئة بالأحسن، وفي موضع اخر جعل الله العدل دليلا على التقوى فقال في سورة المائدة (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
القضاء فى عهد الخلفاء الراشدين
وينبغي أن لا ينصب قاضيا إلا بعد أن يدرس حكم القضاء فى الشرع الإسلامي وفى عهد الخلفاء
في عهد أبي بكر الصديق
لم يكن منصب القاضي متميزًا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل كان يقوم به فقهاء الصحابة، وكان الخليفة يقضى بنفسه بين الناس في المدينة، وأحيانًا كان يقوم بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأمر الخليفة أبي بكر، وكان الولاة هم المسئولين عن القضاء في الأمصار.
في عهد عمر بن الخطاب
ومنذ خلافة عمر بن الخطاب عين بعض الصحابة على القضاء في المدينة، منهم زيد بن ثابت وأبو الدرداء، كما عين عددًا من القضاة في الأمصار منهم عبد الله بن مسعود على قضاء الكوفة، وشريح بن الحارث الكندي على قضاء الكوفة، وعبيدة السلماني على قضاء الكوفة. وكان ألمعيًا في اختياره لهما فقد خدما الناس مدة طويلة في مجال القضاء خلال عصر الراشدين والأمويين. كما عين عمر عبادة بن عبادة بن الصامت على قضاء حمص وقنسرين. وبهذا الإجراء فصل عمر السلطة القضائية عن سلطة الولاة، وبذلك يتعزز موقع القاضي حيث أنه يرتبط بالخليفة مباشرة [1].
ولكن استمر بعض الولاة يقومون بمهام القاضي في الولايات الداخلية المستقرة حيث يجد الولاة الوقت الكافي لذلك، خلافًا لولاة الأقاليم المحاذية للأعداء حيث ينشغل الوالي بالمهام العسكرية والإدارية. وكان عمر يوصي الولاة باختيار الصالحين للقضاء وبإعطائهم المرتبات التي تكفيهم [2].
في عهد عثمان بن عفان
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يعين القضاة على الأقاليم حينًا، مثل تعيينه كعب بن سور على قضاء البصرة، ويترك القضاء للوالي حينًا آخر، مثل طلبه من واليه على البصرة أن يقوم بالقضاء بين الناس إضافة إلى عمل الولاية، وذلك بعد عزله كعب بن سور. وكذلك كان يعلى بن أمية واليًا وقاضيًا على صنعاء [3]. ويلاحظ أن بعض الولاة كانوا يختارون قضاة بلدانهم بأنفسهم، ويكونون مسئولين أمامهم مما يشير إلى ازدياد نفوذ الولاة في خلافته.
في عهد علي بن أبي طالب
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكان يتولى القضاء بنفسه في الكوفة، أما الأمصار فكان تعيين القضاة غالبًا من قبل الولاة، ولكن عليًا عين بعض القضاة مباشرة [4].
وكانت مصادر الحكم في عصر الخلافة الراشدة هي القرآن والسنة والإجماع والاجتهاد والرأي. وقد عرف من فقهاء الصحابة وأهل الفتوى المكثرين والمتوسطين في عصر الخلافة الراشدة أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعائشة ومعاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وأبو هريرة وسلمان الفارسي وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وزيد بن ثابت [5].
تطبيق الحدود الشرعية
وكان القاضي في عصر الخلفاء الراشدين "يقضي في الخصومات كلها، أيًا كان نوعها، في المعاوضات المالية، وفي شؤون الأسرة، وفي الحدود والقصاص، وسائر ما يكون فيه الشجار، وليس هناك ما يشير إلى ما يعرف اليوم بالاختصاص القضائي سوى ما جاء في تولية السائب بن يزيد ابن أخت النمر من قول عمر بن الخطاب: رد عني الناس في الدرهم والدرهمين". ويجوز أن يعهد الخليفة إلى القاضي أن يقضي في قضية بعينها وينتهي اختصاصه بالنظر فيها.
وكان القضاة يقضون في الحقوق المدنية والأحوال الشخصية، أما القصاص والحدود فكان الحكم فيها للخلفاء وأمراء الأمصار، فلابد من موافقتهم على الحكم، ثم انحصرت الموافقة على تنفيذ حد القتل بالخليفة وحده، وبقي للولاة حق المصادقة على أحكام القصاص دون القتل.
ولم يكن للقضاء مكان مخصص، بل يقضي القاضي في البيت والمسجد، والشائع جلوسهم في المسجد. ولم تكن الأقضية تسجل لقلتها وسهولة حفظها. وكان بإمكان القاضي حبس المتهم للتأنيب واستيفاء الحقوق، وقد فعل ذلك عمر وعثمان وعلي، فكانت الدولة تهيئ السجون في مراكز المدن، وكان القصاص ينفذ خارج المساجد [6].
ندرة الخصومات بين الناس
كان الناس على مستوى عالٍ من الوعي الإسلامي، وكانوا يتعاملون بالمروءات فتقل بينهم الخصومات، مما خفف الأعباء عن القضاة. فلما ولي أبو بكر قال له أبو عبيدة: أنا أكفيك بيت المال. وقال عمر: أنا أكفيك القضاء، فمكث سنة لا يأتيه رجلان. وقال أبو وائل شقيق بن سلمة: "اختلفتُ إلى سلمان بن ربيعة حين قدم على قضاء الكوفة أربعين صباحًا لا أجد عنده فيها خصمًا"، وكان سلمان بن ربيعة أول من استقضى على الكوفة [7].
ولم تكن الدولة تشجع الناس على الاعتراف بخطاياهم، بل تريد لهم الستر والتوبة فيما بينهم وبين الله تعالى، فلما خطب شرحبيل بن السمط الكندي (ت 40 هـ)-وكان يتولى مسلحة دون المدائن- فقال: "أيها الناس، إنكم في أرضٍ الشرابُ فيها فاشٍ، والنساء فيها كثير، فمن أصاب منكم حدًا فليأتنا فلنُقم عليه الحد، فإنه طهوره، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه: لا أحِلُّ لك أن تأمر الناس أن يهتكوا ستر الذي سترهم". ولكن إذا رفع الناس الأمر إلى القضاء فإن الدولة كانت تقيم الحدود دون هوادة.
ومما يروى في الستر على حالات الجنوح، أن امرأة من همدان في اليمن ارتكبت الفاحشة فقدم عمها إلى المدينة، وذكر ذلك لعمر بن الخطاب، فقال له عمر: "لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه". وقال عمر لرجل آخر في حالة مماثلة: "أنكحها نكاح العفيفة المسلمة" [8].
إخضاع الخلفاء أنفسهم لأحكام القضاء وإجراءاته
كان الخلفاء الراشدون يستوون مع الرعية في إجراءات التقاضي، بل إنهم عززوا مكانة القضاة وطالبوهم بأقصى درجات العدل في المساواة بين الناس حاكمهم ومحكومهم. وقد تخاصم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الصحابي الجليل أبي بن كعب في ملكية بستان، فحكَّما زيد بن ثابت، فأتياه في منزله، فلما دخلا عليه قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا، وفي بيته يؤتى الحكم. فتنحى له زيد عن صدر فراشه، فقال: هاهنا يا أمير المؤمنين. فقال عمر: جرت يا زيدُ في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصمي. فجلسا بين يديه. فادعى أبي وأنكر عمر. فقال زيد لأبي: أعف أمير المؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحد غيره. فحلف عمر. ثم حلف عمر لا يُدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء".
وساوم عمر بن الخطاب بفرس فركبه ليجربه فعطب، فقال لصاحبه: خذ فرسك. فأبى الرجل، فاحتكما إلى شريح، فقال شريح: يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت أو رُدَّ كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا؟ فبعثه إلى الكوفة قاضيًا. وكان يتعاهده بالرسائل التي تحتوي على توجيهات بالقضاء وطرقه [9].
الجرائم والعقوبات [*]
1- تزوير معن بن زائدة خاتم بيت المال بالكوفة (في خلافة عمر).
العقوبة: مائة سوط.
2- رجل سرق من بيت المال بالكوفة (في خلافة عمر).
العقوبة: جلده تعزيرًا مع درء الحد لأن له في بيت المال نصيبًا.
3- سرقة غلمان حاطب- أرقاء- ناقة أكلوها (في خلافة عمر).
العقوبة: درء الحد عنهم للضرورة وتهديد مالكهم بعدم إجاعتهم وتغريمه ضعفي ثمن الناقة (800 درهم).
4- مجنونة زنت (في خلافة عمر).
العقوبة: أسقط الحد عنها للجنون.
5- ذمي استكره مسلمة على الزنا (في خلافة عمر).
العقوبة: الصلب لأنه خالف شروط العهد.
6- إكراه نساء على الزنا (في خلافة عمر).
العقوبة: درء الحد عنهن للإكراه.
7- زناة يجهلون التحريم (في خلافة عمر).
العقوبة: درء الحد عن كل من لا يعلم تحريم الزنا.
8- امرأة تزوجت في عدتها وهي وزوجها لا يعلمان التحريم (في خلافة عمر).
العقوبة: درء الحد عن المرأة وجلد الزوج تعزيرًا مع التفريق بينهما.
9- امرأة تزوجت ولها زوج كتمته (في خلافة عمر).
العقوبة: رجم المرأة، وجلد الزوج مائة سوط، ولم يرجم للجهالة.
10- امرأة أعجمية زنت ولا تعلم بالتحريم.
العقوبة: درء الحد.
11- شهادة ثلاثة على المغيرة بالزنا وعدم اكتمال الشهادة لتراجع الشاهد الرابع (في خلافة عمر).
العقوبة: إقامة حد القذف على الشهود الثلاثة، ثمانين جلدة (والقذف يشمل الرمي بالزنا أو نفي النسب افتراءً، ولا يشمل أنواع السب والشتم الأخرى).
12- امرأة اتهمت زوجها بجاريتها ثم اعترفت بأنها وهبتها له (في خلافة عمر).
العقوبة: إقامة حد القذف على المرأة ثمانين جلدة.
13- زناة من ولائد الإمارة (عبيد)
العقوبة: الجلد خمسون جلدة.
14- رجل شرب الخمر في رمضان (في خلافة علي).
العقوبة: ثمانون جلدة مع عشرين جلدة تعزيرًا لحرمة رمضان.
15- صحابة منهم (ضرار وأبو جندل) شربوا الخمر متأولين (في خلافة عمر).
العقوبة: ثمانون جلدة (بعد استتابتهم وإقرارهم بحرمة الخمر وإلا قُتلوا- إذا زعموا أنها حلال).
16- المرتد (في عهد الخلفاء الأربعة).
العقوبة: يستتاب ثلاث مرات فان لم يتب يُقتل.
17- أم قرفة ارتدت وحرضت أولادها على المسلمين (في خلافة الصديق)
العقوبة: عوقبت بالقتل.
18- ردة بني حنيفة (في خلافة الصديق).
العقوبة: القتل للرجال واسترقاق النساء إلا من رجع منهم إلى الإسلام.
19- حارث بن بدر قطع الطريق وحارب ثم تاب (في خلافة على).
العقوبة: قبول توبته وإسقاط الحد عنه لأنه تاب قبل القدرة عليه.
20- قاطع طريق ألقى القبض عليه (في خلافة علي).
العقوبة:
أ- إذا لم يأخذ مالا ولم يقتل نفسًا حُبس حتى يتوب.
ب- إذا أخذ مالًا ولم يقتل نفسًا قُطعت يداه ورجلاه من خلاف.
جـ- إذا قتل وأخذ المال قُطعت يداه ورجلاه من خلاف ثم صُلب حتى يموت
د- إن تاب قبل أن يؤخذ، ضمن الأموال واقتص منه ولم يحد.
التعزير
وهو العقوبة التي يُقدرها القاضي على كل جريمة أو معصية لا حدَّ ولا عقوبة شرعية لها.
1- قاتل لص هو صابيء بن حارث التميمي (في خلافة عثمان).
العقوبة: الحبس حتى الموت.
2- الساحر (في خلافة عمر وعثمان وعلي).
العقوبة: القتل إذا لم يتب.
3- شتم الرسول صلى الله عليه وسلم (في عهد الخلافة الراشدة).
العقوبة: القتل.
4- هجاء الحطيئة للناس (في خلافة عمر).
العقوبة: السجن.
5- تخنث نصر بن الحجاج وتشبيبه بالنساء (في خلافة عمر).
العقوبة: حلق شعره ثم نفيه من المدينة.
6- اتخاذ رويشد الثقفي حانوتًا لبيع الخمر (في خلافة عمر).
العقوبة: إحراق الحانوت.
7- قرية تبيع الخمر (في خلافة علي).
العقوبة: إحراق القرية.
الجنايات
وهي الجرائم الواقعة على الأبدان كالقتل، وقطع الأعضاء، والجروح. وحكمها القصاص من الفاعل إلا إذا اختار ولي القتيل الدية.
1- رجل قتل تاجرًا لماله (في خلافة عثمان).
العقوبة: القتل - قصاصًا.
2- امرأة قتلت زوجها يوم زفافها بحضور صديقها (في خلافة علي).
العقوبة: القتل - قصاصًا.
3- رجل قتل ولده عمدًا (في خلافة عمر).
العقوبة: الدية.
4- مسلم قتل ذميًا بالشام (في خلافة عمر).
العقوبة: القتل - قصاصًا.
5- حر قتل عبدًا (في خلافة علي).
العقوبة: القتل.
6- حر قتل عبدًا (في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي).
العقوبة: الضرب والحبس.
7- قاتل اعترف بالقتل لدفع التهمة عن متهم بريء (في خلافة علي).
العقوبة: الديُة.
8- سبعة من أهل صنعاء اشتركوا في قتل رجل (في خلافة عمر).
العقوبة: القتل لهم جميعا.
9- ثلاثة اشتركوا بقتل رجل (في خلافة علي).
العقوبة: القتل لهم جميعا.
10- امرأة وخليلها وخادمها ورجل قتلوا ابن زوجها -قطعوه ورموه بالبئر- باليمن (في خلافة عمر).
العقوبة: القتل لهم جميعًا.
11- شاب تنكر بثياب امرأة واغتصب امرأة نائمة فقتلته (في خلافة عمر).
العقوبة: براءة المرأة.
12- امرأة قتلت رجلًا دفاعًا عن عرضها (في خلافة عمر).
العقوبة: براءة المرأة.
13- قتيل وجد بين حيَّين (في خلافة عمر).
العقوبة: يحلفون خمسين يمينًا، ثم الدية على أقرب الحيَّين إذ لا يجب القصاص بالقسامة.
________________________________________
[1] عمر بن شيبة: تأريخ المدينة 2: 694، ووكيع: أخبار القضاة 1: 108، 2: 198 - 199. البلاذري: فتوح البلدان 146، 269. الذهبي: سير أعلام النبلاء 4: 40، وابن العماد: شذرات الذهب 1: 78. وقد ظهرت نظرية استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية في الفكر الغربي في كتابات منتسكيو التي مهدت للثورة الفرنسية عام 1789 م.
[2] الذهبي: سير أعلام النبلاء 1: 454 - 455، وابن قدامة: المغني 9: 37، والسمناني: روضة القضاة وطريق النجاة 86. عبد العزيز إبراهيم العمري: الولاية على البلدان 2: 92.
[3] خليفة: التأريخ 179.
[4] خليفة بن خياط: التأريخ 200. عبد العزيز إبراهيم العمري: الولاية على البلدان 2: 93، نقلًا عن عبد الله عثمان علي مقبل: قضاة أمير المؤمنين علي ص290 (رسالة ماجستير من شعبة السياسة الشرعية بالمعهد العالي للقضاء).
[5] ابن القيم: أعلام الموقعين 1: 12 - 13.
[6] ابن عبد البر: الاستيعاب 2: 106، وابن حجر: الإصابة 2: 13، الشوكاني: نيل الأوطار 7: 159 - 160. ابن حجر: فتح الباري 16: 250، ومناع القطان: النظام القضائي في العهد النبوي وعهد الخلافة الراشدة 1: 395 - 396، 399، 410، ضمن وقائع ندوة النظم الإسلامية- (أبو ظبي 18 - 20 صفر 1405 هـ، 11 - 13 نوفمبر 1984 م). محمد حميد الله: الوثائق السياسية 521.
[7] الطبري: تأريخ 3: 426. ابن عبد البر: الاستيعاب 2: 62، وابن الأثير: أسد الغابة 2: 327. ابن حجر: الإصابة 2: 61.
[8] عبد الرزاق: المصنف 5: 197 - 198، والمتقي الهندي 5: 569 - 570 واللفظ له. وناصر بن عقيل الطريفي: القضاء في خلافة عمر بن الخطاب 2: 862. وانظر بعض أحكام القضاة التي تدعم هذا التوجه (ابن أبي شيبة: المصنف 10: 15، وعبد الرزاق: المصنف 7: 370 - 371). الشافعي: الأم 5: 132، والطبري: تفسير 6: 67. ابن قدامة المقدسي: المغني 7: 368، 433. والمسلحة هم مقاتلون يراقبون العدو في الثغر الذي يسكنونه لئلا يباغتهم، ويتكفلون بصده عمن وراءهم.
[9] وكيع: أخبار القضاة 1: 108 - 109، 2: 189، 192. والبيهقي: السنن 10: 136، 144، 145. ابن سعد: الطبقات الكبرى 6: 132.
[*] تمَّ إعداد هذه القائمة بالاعتماد على مصدرين هما:
1 - صبحي محمصاني: تراث الخلفاء الراشدين في الفقه والقضاء، نشر دار العلم للملايين.
2 - ناصر بن عقيل الطريفي: القضاء في عهد عمر بن الخطاب "مجلدان" نشر دار المدني، جدة.
وهي معتمدة من صحيح مسلم بشرح النووي، وسنن أبي داوود، والأم للشافعي، وعمدة القاري للعيني، والمغني لابن قدامة، والمحلى لابن حزم، والمبسوط للسرخسي، وموطأ مالك بشرح السيوطي، وأعلام الموقعين والطرق الحكمية لابن القيم، وفتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، وأخبار القضاة لوكيع، وبداية المجتهد لابن رشد، وتفسير القرطبي، ونيل الأوطار للشوكاني، والمهذب للشيرازي، وتاريخ الطبري، وتبصرة الحكام لابن فرحون، والأموال لأبي عبيدة، وتفسير ابن كثير، ومسند الإمام أحمد، والمدونة الكبرى لسحنون.

نقلا عن موقع الحضارة سبق وريادة
عدل علي وهو إمام العدل، وكل عدل في الدنيا هو عيال على عدالته، ولولا أنَّ أُصول العدالة جارية في نفسه مجرى الدم في عروقه لما أمكن تطبيقه لاُصول العدالة في جميع سلوكه ومدى حياته ; ومن مستلزمات تطبيق العدالة وتنفيذها قوّة الايمان بالله تعالى والتقوى، مقرونة بحزم وعزم يفوق كل عاطفة ومصانعة، وعدم الخوف من المشاكل المحتمل وقوعها، وقد تجسّدت هذه المؤهلات كلّها في نفسية الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه، وإليك نماذج من عدله في حكمه، وتطبيقه لها متميزاً في حديثه (عليه السلام):
النموذج الاوّل: في حديث لامير المؤمنين (عليه السلام): والله، لان أبِيتَ على حَسَكِ السَّعْدَان مُسَهَّداً، أو أُجرَّ في الاَغلالِ مُصَفَّداً أحَبُّ إليَّ مِن أنْ ألْقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام. وكيفَ أظلمُ أحداً لنَفْس يُسْرعُ إلى البلى قُفُولُها ويطولُ في الثرى حُلُولُها.
والله لقد رأيت عقيلاً وقد أمْلق حتّى استماحني من بُرِّكُم صاعاً، ورأيتُ صبيانه شُعْثَ الشعور، غُبْرَ الالوان من فقرهم، كأنّما سُوِّدت وجوههم بالعِظْلِمِ، وعاودني مؤكّداً، وكرَّر عليَّ القول مُردداً فأصغيت إليه سَمعي، فظنَّ أني أبيعُهُ ديني، وأتّبعُ قِيَادَهُ مُفارِقاً طريقتي، فأحميتُ له حديدةً، ثمَّ أدنيْتُها من جِسمِه ليعتبر بها، فضجَّ ضجيجَ ذي دَنَف من ألمِهَا وكادَ أنْ يحترق من ميسَمِها فقلتُ له: ثكلتْك الثواكل يا عقيل، أتئِنُ مِن حَدِيدة أحماها إنسانها لِلَعبهِ، وتجُرُّني إلى نار سجَرَهَا جَبَّارُهَا لغِضَبِهِ، أتئِنُ مِن الاذى ولا أئِنُ مِن لظى؟! والله لو أُعطيتْ الاقاليمَ السبعة بما تحت أفْلاكها على أن أعْصي الله في نملة أسْلُبُها جلب شعيرة ما فعلتُه، وإنَّ دُنْيَاكُم لاهْوَن عندي مِن ورقة في فَمِ جَرادة تقضمُها، ما لِعليٍّ ولنعيم يَفنى ولَذَّة لا تبقى، نعوذُ بالله مِن سُبَات العَقلِ وقُبْح الزللِ.
النموذج الثاني: روي أنَّ سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت على معاوية بعد شهادة علي (عليه السلام)، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيّام صِفّين، وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟ قالت: إنّ الله مسائلك عن أمرنا، وما افترض عليك من حقّنا، ولا يزال يتقدّم علينا من قِبلَك من يسمو بمكانك، ويبطش بقوّة سلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف، ويذيقنا الحتف هذا بسر بن أرطاة قدم علينا فقتل رجالنا ، وأخذ أموالنا ولولا الطاعة لكان فينا عزّ ومنعة، فإن عزلته عنّا شكرناك وإلا كفّرناك. فقال معاوية: إيّاي تهددين بقومك يا سودة؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشوس فأردّك إليه فينفّذ فيك حكمه. فأطرقت سودة ساعة ثمَّ قالت:
صلّى الاله على روح تضمَّنها * * * قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً * * * فصار بالحق والايمان مقرونا
فقال معاوية: مَن هذا يا سودة؟ قالت: هو، والله، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والله لقد جئته في رجل كان قد ولاّه صدقاتنا، فجار علينا، فصادفته قائماً يصلّي، فلمّا رآني انفتل من صلاته، ثمَّ أقبل عليَّ برحمة ورفق ورأفة وتعطّف، وقال: ألكِ حاجة (يا أمة الله)؟ قلت: نعم، فأخبرته الخبر، فبكى ثمَّ قال: اللهمَّ أنت الشاهد عليَّ وعليهم، وإنّي لم آمرهم بظلم خلقك، ثمَّ أخرج قطعة جلد فكتب فيها:
«بسم الله الرحمن الرحيم، قد جاءتكم بيّنة من ربِّكم، فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها، ذلكم خيرٌ لكم إنْ كنتم مؤمنين، فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتّى يقدم عليك مَن يقبضه منك، والسلام».
ثمَّ دفع الرقعة إليَّ فوالله ما ختمها بطين، ولا خزنها، فجئت بالرقعة إلى صاحبه، فانصرف عنّا معزولاً.
فقال معاوية: اكتبوا لها كما تريد، واصرفوها إلى بلدها غير شاكية.
النموذج الثالث: عن ميسرة، عن شريح القاضي، قال: لمّا توجّه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى قتال معاوية افتقد درعاً له، فلمّا رجع وجدها في يد يهودي يبيعها بسوق الكوفة، فقال: يا يهودي، الدرع درعي، لم أهب ولم أبع.
قال اليهودي: درعي، وفي يدي.
فقال: بيني وبينك القاضي.
قال: فأتياني، فقعد عليٌّ إلى جنبي، واليهودي بين يدي، وقال (عليه السلام): لولا أنّ خصمي ذمّي لاستويت معه في المجلس ; ولكني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أصغروا بهم كما أصغر الله بهم.
ثمَّ قال: هذا الدرع درعي، لم أبع، ولم أهب.
فقال لليهودي: ما تقول.
قال: درعي وفي يدي.
قال شريح: يا أمير المؤمنين، هل من بيّنة؟
قال: نعم، الحسن ابني وقنبر يشهدان أنَّ الدرع درعي.
قال شريح: يا أمير المؤمنين، شهادة الابن للاب لا تجوز.
فقال عليٌّ: سبحان الله، أرجلٌ من أهل الجنّة لا تجوز شهادته ; سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة.
فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدَّمني إلى قاضيه. وقاضيه يقضي عليه ; أشهد أنَّ هذا الدين على الحق، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمّداً عبده ورسوله، وأنّ الدرع درعك يا أمير المؤمنين، سقط منك ليلاً.
وتوجّه مع عليٍّ يُقاتل معه بالنهروان فقتل.
النموذج الرابع: كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) دخل ليلة في بيت المال ليكتب قسمة الاموال، فورد عليه طلحة والزبير، فأطفأ (عليه السلام) السراج الذي بين يديه، وأمر بإحضار سراج آخر من بيته، فسألاه عن ذلك، فقال: كان زيته من بيت المال، لا ينبغي أن نصاحبكم في ضوئه.
النموذج الخامس: روى أبو إسحاق الهمداني أنَّ امرأتين أتتا عليّاً (عليه السلام) إحداهما من العرب، والاُخرى من الموالي، فسألتاه، فدفع إليهما دراهماً وطعاماً بالسواء، فقالت إحداهما: إنّي امرأة من العرب، وهذه من العجم.
فقال: إنّي، والله، لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق.
النموذج السادس: قدم عبد الله بن زمعة على عليٍّ (عليه السلام) في خلافته، وكان من شيعته، فطلب منه مالاً، فقال: إنَّ هذا المال ليس لي ولا لك، وإنّما هو فيء للمسلمين، وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم، وإلاّ فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم.
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يعطي ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) أكثر من حقّهما، فانظر إلى رجل حمله ورعه على هذا الصنيع لولديه، وبأخيه من أبويه، أعني عقيلاً.
النموذج السابع: عن حُميد بن هلال، أنّ عقيلاً سأل عليّاً (عليه السلام) فقال: أنّي محتاج وفقير.
فقال: حتّى يخرج عطائي.
فقال له عقيل: بيوت المال بيدك وأنت تسوّفني بعطائك.
فقال: أتأمرني أن أدفع إليك أموال المسلمين قد ائتمنوني عليها؟! فألحّ عليه، فقال لرجل: خذ بيده وانطلق به إلى الحوانيت، فقل: دقّ الاقفال وخذ مافي الحوانيت.
وبعبارة أُخرى: قال له: انطلق فخذ مافي حوانيت الناس.
فقال: تريد أن تتخذني سارقاً.
قال: وأنت تريد أن تتخذني سارقاً! وأُعطيك أموال الناس؟
فقال: لاتين معاوية. قال: أنت وذاك.
فأتى معاوية، فأعطاه مائة ألف، ثمَّ قال: اصعد على المنبر فاذكر ما أولاك علي، وما أوليتك.
قال: فصعد المنبر، فحمد الله ثمَّ قال: أيّها الناس، إنّي أُخبركم أنّي أردت عليّاً على دينه فاختار دينه عليَّ، وأردت معاوية على دينه فاختارني على دينه.
فقال معاوية: هذا الذي تزعم قريش أنّه أحمق!
النموذج الثامن: يُحكى أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ولّى أبا الاسود الدؤلي القضاء ساعة من نهار ثمَّ عزله، فقال له: لِمَ عزلتني؟ فوالله ما خنت ولا خونت. قال: بلغني أنَّ كلامك يعلو كلام الخصمين إذا تحاكما إليك.
ويروى أنَّ عليّاً (عليه السلام) أرسل أبا أمامة الباهلي - عثمان بن حنيف - بحكومة البصرة، فأخبره رجل بأنّه دُعي إلى ضيافة، فكتب إليه: «أمّا بعد يابن حنيف، فقد بلغني أنَّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها، تستطاب لك الالوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ، وغنيّهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
ألا وإنَّ لكل مأموم إماماً يُقتدى به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعْمِهِ بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تِبْراً، ولا ادخرت من غنائمها وَفْرَاً، ولا أعددت لبالي ثوبي طِمْرَاً. إلى آخر كتاب المذكور في «نهج البلاغة» كتاب رقم «45».
إلى هنا نكتفي من عرض نماذج لعدل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وزهده، وقد رواها جمع كثير من أعلام القوم وحفّاظهم في كتبهم ومسانيدهم.

قضاء علي (عليه السلام)
قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عليّ (عليه السلام): الحمد لله الذي مَنَّ على العباد بمن يقضي قضاء النبي.
الاحاديث والروايات في قضاء الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كثيرة، لا يمكن حصرها، أذكر هنا بعضاً منها على سبيل المثال:
كان أوّل قاض بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال: يا رسول الله، أتبعثني إلى كهول اليمن ولا عِلم لي بالقضاء؟! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): انطلق، فإنَّ الله سيهدي قلبك ويثبّت لسانك، إنَّ الناس سيتقاضون إليك، فإذا أتاك الخصمان فلا تقضِ لواحد حتّى تسمع كلام الاخر، فإنّه أجدر إنْ لم تعلم لمن الحق.
وقد روى العامة والخاصة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «أقضاكم علي» والقضاء هو الفقه فاذن هو افقههم.

1 - ثورٌ قتل حماراً

على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرفع ذلك إليه، وهو في أُناس من أصحابه، منهم أبو بكر وعمر وعثمان، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا بكر، إقض بينهما.
فقال: يا رسول الله، بهيمة قتلت بهيمة، ما عليها شيء.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمر: يا عمر، اقض بينهما. فقال كقول صاحبه أبي بكر.
فالتفت النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عليٍّ (عليه السلام) وقال له: يا علي، اقضِ.
فقال: حبّاً وكرامة، إن كان الثور دخل على الحمار فقتله في مستراحه ضمن أصحاب الثور ديَّة الحمار، وإن كان الحمار دخل على الثور في مستراحه فلا ضمان على صاحب الثور.
فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده إلى السماء وقال: الحمد لله الذي مَنَّ على العباد بمَن يقضي قضاء النبيين.
ذكره الحافظ أبو الفوارس في الاربعين - ص 13 مخطوط، وكذلك ذكره العلاّمة القندوزي في «ينابيع المودّة» ص 76 ط اسلامبول.

2 - قضاؤه في جماعة اتهموا بقتل رفيقهم في السفر

روى العلاّمة الشيخ كمال الدين الشافعي في «مطالب السؤول» ص 29 طـ طهران - ونقلناه من كتاب إحقاق الحق ج 8 ص 79:
إنَّ سبعة أنفس خرجوا من الكوفة مسافرين فغابوا مدة، ثمَّ عادوا وقد فُقِدَ منهم واحد، فجاءت امرأته إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالت: إنَّ زوجي سافر هو وجماعته، وعادوا دونه، فأتيتهم وسألتهم عنه فلم يخبروني بحاله، وقد اتهمتهم بقتله، وأسألك إحضارهم واستكشاف حالهم.
فأحضرهم (عليه السلام) وفرّقهم، وأقام كل واحد منهم إلى سارية من سواري المسجد، ووكل به رجل يمنع أن يقرب منه أحد ليحادثه، ثمَّ استدعا واحداً فحدَّثه وسأله عن حال الرجل، فأنكر، فلمّا أنكر رفع عليٌّ (عليه السلام)صوته بالتكبير وقال: الله أكبر فلمّا سمع الباقون صوت علي (عليه السلام) مرتفعاً بالتكبير اعتقدوا أنَّ رفيقهم قد أقرَّ وحكي لعليٍّ (عليه السلام) صورة الحال.
ثمَّ استدعاهم واحداً واحداً فأقرّوا بقتله بناءً على أن صاحبهم قد أخبر علياً بما فعلوه.
فلمّا أقرّوا بذلك قال الاوّل: يا أمير المؤمنين، هؤلاء قد أقرّوا وما أنا أقررت.
قال له (عليه السلام): هؤلاء رفاقك قد شهدوا عليك، فما ينفعك إنكارك بعد شهادتهم.
فاعترف أنّه شاركهم في قتله، فلمّا كمل اعترافهم أقام عليهم حكم الله تعالى وقتلهم به، فكان ذلك من عجائب فهمه وغرائب علمه.
كما ذكر هذه القضية العلاّمة الزمخشري في «الفائق» ج2 ص 156 ط القاهرة.
ومنهم العلاّمة أبو هلال العسكريّ المتوفى بعد سنة 395 بقليل في «الاوائل» ص 143 وغيرهم.

3 - قضاؤه (عليه السلام) في ردّ مال استودعه رجلان

روى حنش بن المعتمر أنّ رجلين استودعا امرأة من قريش مائة دينار وأمرها أن لا تدفع إلى واحد منهما دون صاحبه، فأتاها أحدهما فقال: إنَّ صاحبي هلك فادفعي إليَّ المال. فأبت، فاستشفع إليها، ومكث يختلف إليها ثلاث سنين.
قال: فدفعت إليه المال.
ثمَّ جاء إليها صاحبه فقال: أعطيني المال.
فقالت له: قد أخذه صاحبك فارتفعوا إلى عمر، فقال له عمر: ألك بيّنة.
فقال: هي بيّنتي.
قال: ما أراك إلا ضامنة. فقالت: أنشدك الله إلاّ ما رفعتها إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام).
قال: فرفعها إليه، فأتوه في حائط وهو يسيل الماء، وهو مؤتزر بكساء، فقصّوا عليه القصّة، فقال للرجل: إئتني بصاحبك وإليَّ متاعك.
رواه جماعة من أعلام القوم، منهم: العلاّمة أخطب خوارزم في كتابه «المناقب» ص 60 ط تبريز.
ومنهم العلاّمة الطبري «في ذخائر العقبى» ص 79 ط مصر.

4 - قضاؤه وحكمته، ومناقبه
تزوّج رجل في زمانه (عليه السلام) بامرأتين فولدتا في ليلة مظلمة، فأتت واحدة بصبي والاُخرى بأُنثى، فاختصمتا في الصبى إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فأمر كلّ واحدة أن تحلب من لبنها شيئاً ثمّ وزن اللبنين، فرجح أحدهما، فحكم لصاحبه الراجح بالصبي.
فقيل: من أين أخذت هذا؟ قال: من قوله تعالى: (للذكر مثل حظ الاُنثيين)([1]) فإنَّ الله تعالى قد فضَّل الذكر في كلّ شيء حتّى في غذائه.
روى ذلك العلاّمة الصفوري في «نزهة المجالس» ج2 ص 211 ط القاهرة، ونقلناه من كتاب إحقاق الحق ج 8 ص 81.

حكمه في الحامل الزّانية
وهو الذي أفتى في الحامل الزانية، حيث قال لعمر بن الخطاب: (ما معناه) إذا كان لك عليها سلطان، فما لك على الجنين سلطان.

المرأة التي وضعت لستة أشهر
وهو الذي أفتى ببراءة المرأة التي وضعت لستة أشهر، في حين أفتى عثمان برجمها بتهمة الزنا، حيث استدلّ على الاية الكريمة حيث قال تبارك وتعالى (وحمله وفصاله ثلاثين شهراً)([2]) وفي موضع آخر قال: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)([3]) أربع وعشرون شهراً رضاعة وستة أشهر حمل = ثلاثين شهراً، وهناك قضاء وفتاوى عجيبة وكثيرة ذكرنا بعضها في الفصول السابقة
إذن القضاء خطير فقد ورد ان ثلثي القضاة فى النار عن الأثر الذي جاء فيه قاضي فى الجنة وقاضيان فى النار
فعلى القاضي أن لا يستمع ولا يقبل إلا الحق ولا يخاف من سلطان ولا يميل عن العدل والحق مادام رأسه فوق عنقه وسوف يجازيه الله فى الدنيا بالمهابة وفى الآخرة بالجنة
سيد مولاي الزين

على مدار الساعة

فيديو