
استقرت في موريتانيا القبائل الأفريقية القادمة من الجنوب ومن الشرق حسب رأي بعض الباحثين، في حين يرى آخرون أن العناصر البربرية كانت هي الأسبق لاستيطان المنطقة، حيث استقبلت في الألفية الأولى قبل الميلاد هجرة قبائل بربرية قادمة من شمال أفريقيا إلى موريتانيا وهيمنت على السكان الأفارقة القادمين من الجنوب، ثم استقبلت في الألفية الأولى بعد الميلاد بربر صنهاجة الذين سيطروا على الطرق التجارية الصحراوية. فيما شهدت موريتانيا في بداية القرن الثالث عشر قدوم القبائل العربية. واستقرت قبائل بني حسان العربية بموريتانيا في القرن السادس عشر، التي جاءت من صعيد مصر، وواجهت معارضة شديدة من القبائل البربرية حتى تمت السيطرة عليها في النهاية. واختلطت هذه القبائل وأعطت أهم مجموعة بشرية على مر تاريخ موريتانيا العرب البربر أو الموريين. وقد كان المجتمع الموريتاني القديم ينقسم إلى طبقات هي (الزوايا / العرب / أزناك / الحراطين / المعلمين) وكل طبقة كان لها دور تمتاز به عن الأخرى فالعرب تتولى الدفاع عن الدولة والزوايا تتولى العلم والتعليم، والحراطين يقومون بالزراعة. وظل في موريتانيا سكان أفارقة ينقسمون إلى ثلاث مجموعات هي السوننكي، والفلان(الفلاتا)، والوولوف ولكل واحدة منها لغتها. وقد بدأ دخول الفرنسيين موريتانيا في عام 1902، كقوة استعمارية مع بداية القرن العشرين، وحصلت موريتانيا على الحكم الذاتي في عام 1956 وأصبحت “نواكشوط عاصمة للبلاد، وأعلنت الجمهورية الإسلامية الموريتانية عام 1958. ثم استقلت عن فرنسا في 28 نوفمبر 1960، تحت قيادة مختار ولد داداه، وحصلت موريتانيا في عام 1976 على جزء من الصحراء الغربية بعد اتفاقيات مدريد. وخلال الفترة (1978- 1984) عرفت البلاد فترة من عدم الاستقرار السياسي حيث تتالت الانقلابات. حتى استولى العقيد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع (1992-2005)، رئيس أركان الجيش، على السلطة وتم انتخابه رئيسا لموريتانيا عام 1992 وأعيد انتخابه عام 1997. ثم استولى العقيد اعلى ولد محمد فال، مدير الأمن الوطني على السلطة بانقلاب مفاجئ في عام 2005، وأجريت انتخابات رئاسية تنافسية في موريتانيا لأول مرة في عام 2007، وانتخب سيد ولد الشيخ عبدالله رئيساً للجمهورية (2007-2008)، وهو أول رئيس مدني لموريتانيا منذ أكثر من ثلاثين سنة. ولكن قام محمد ولد عبد العزيز (الرئيس الحالي) بانقلاب عسكري على ولد الشيخ في عام 2008، وأجرى انتخابات رئاسية في عام 2009 تولى من خلالها رئاسة الجمهورية، وأعيد انتخابه في 2014 لفترة رئاسية ثانية تنتهي عام 2019. أولاً: الأوضاع السياسية في موريتانيا : يحفل تاريخ موريتانيا بالصراعات والانقلابات صعودا وهبوطا منذ استقلالها في 28 نوفمبر 1960، فبعد فوز حزب مختار ولد داده بكافة المقاعد في أول انتخابات عامة، وتنصيبه رئيسا للبلاد، أطاح انقلاب عسكري بحكمه في عام 1978، وتم اعتقاله ثم أفرج عنه لاحقا حيث توجه إلى منفى له في فرنسا، وتولت السلطة لجنة عسكرية بقيادة رئيس الأركان مصطفى ولد محمد السالك. وتم وقف العمل بالدستور وحل الجمعية الوطنية وتشكيل ما عرف بلجنة الإنقاذ الوطني، وهي لجنة عسكرية أيضا. وفي نفس العام استقال السالك وخلفه في الرئاسة رجل عسكري آخر هو محمد محمود ولد أحمد لولى، وبعد أقل من عامين استولى محمد خونه ولد هيداله على السلطة، وشكل حكومة مدنية وأعلن دستورا جديدا للبلاد يقضي بالعمل بنظام متعدد الأحزاب[i]. غير أن رئيس أركان الجيش معاوية ولد سيد أحمد الطايع أصبح رئيسا للوزراء في أبريل 1981 في حكومة عسكرية جديدة، وأعلن التخلي عن الدستور الجديد وقاد سخطا شعبيا على حكم هيدالة أدى إلى انقلاب عسكري في ديسمبر 1984، ومن ثم وصل الطايع إلى السلطة. وفي أبريل 1991 طرح معاوية ولد سيد أحمد الطايع سلسلة من المقترحات لدستور جديد يقضي بالتعددية الحزبية، ولكن بحلول شهر فبراير من عام 1992 كانت ستة أحزاب معارضة قد أعلنت انسحابها من انتخابات الجمعية الوطنية لتشككها في العملية الانتخابية. وفي ديسمبر 1997 أجريت انتخابات رئاسية أعادت الطايع إلى السلطة بحصوله على أكثر من 90% من إجمالي الأصوات. وقد حاولت حكومة الطايع المواءمة بين توجه موريتانيا بوصفها بلدا إسلاميا وبين سياسة خارجية غربية الميول. وبعد خلاف مرير أتى بعد وئام مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين، بدل ولد الطايع تحالفه مع العراق بتحسين العلاقات مع إسرائيل، وقد جاءت إثر ذلك محاولة انقلاب عسكري ولكنها باءت بالفشل. لكن الأمور لم تستقر حتى وقع الانقلاب الأخير في أغسطس 2005، وأعلن المجلس العسكري برئاسة العقيد علي ولد محمد فال نهاية النظام الشمولي لولد الطايع[ii]. ومن ثم فقد أسس دستور 20 يوليو 1991 لعملية الانتقال الديمقراطي التي انطلقت في موريتانيا مع مطلع عقد التسعينات من القرن العشرين -على غرار العديد من الدول الأفريقية – وهو الدستور الذي وضع القواعد الضرورية لإقامة ديمقراطية تعددية، سمحت بتأسيس الأحزاب السياسية وإصدار الصحف وإقامة الكثير من منظمات المجتمع المدني، لكن تلك التجربة سرعان ما انتكست بفعل رسوخ ثقافة الحزب الواحد وغياب أفق للتداول السلمي للسلطة وإصرار النظام القائم آنذاك على البقاء في الحكم وضعف قيم الممارسة الديمقراطية، وما صاحبها من مصادرة للصحف وإغلاقها في أحيان كثيرة وحل للأحزاب السياسية، لأن النصوص الدستورية على أهميتها لا تحقق الديمقراطية في غياب الإرادة السياسية للسلطة الحاكمة وطبقة سياسية واعية مؤمنة بالديمقراطية، مما جعل تجربة التحول الديمقراطي في موريتانيا، تبدو وكأنها إعادة لتأهيل النظام القائم آنذاك من الداخل، وقد انجر عن ذلك احتقان سياسي شديد، ولد سلسلة من المحاولات الانقلابية توجت بنجاح انقلاب 3 أغسطس 2005، الذي جاء “بالمجلس العسكري للعدالة والديمقراطية”، الذي أشرف على مرحلة انتقالية من سنتين، تميزت بانفتاح سياسي كبير وبالعديد من الإصلاحات السياسية، خاصة إقرار مبدأ تداول السلطة سلميا، الذي تكرس دستوريا من خلال النص في الدستور على أن مدة انتداب رئيس الجمهورية، هي خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وقد تمخضت هذه المرحلة، عن انتخابات برلمانية ورئاسية شفافة نسبيا، أفرزت رئيسا منتخبا ديمقراطيا للمرة الأولى في الوطن العربي في مارس2007[iii]. غير أن العملية السياسية لم تستقر في موريتانيا بأول رئيس مدني منتخب، حيث شهدت البلاد انقلاب 6 أغسطس 2008، بقيادة الجنرال محمد ولد عبد العزيز، بعد عزل الرئيس الموريتاني، سيدي ولد الشيخ عبد الله ورئيس الوزراء يحيى ولد أحمد من قبل بعض عناصر من كتيبة الأمن الرئاسي (BASEP)[iv]. ثانياً: الرئيس الموريتاني، ودوره في قيادة الدولة. التحق محمد ولد عبد العزيز (رئيس الجمهورية الحالي) بالجيش الموريتاني عام 1977، وأسند إليه الرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد الطايع قيادة الحرس الرئاسي، أقوى فرق الجيش الموريتاني وأحسنها عدة وتدريبا، وكان له دور في إفشال محاولة الانقلاب على الطايع في 8 يونيو 2003 فتمت ترقيته إلى رتبة عقيد، كما لعب دورا بارزا في انقلاب 3 أغسطس 2005، وظهر اسمه باعتباره أبرز قادة الانقلاب الذي أطاح بالرئيس ولد الطايع، ولعب دورا بارزا في وصول الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله إلى سدة الحكم في مارس 2007، فكافأه بترقيته إلى رتبة جنرال، أعلى رتبة في الجيش الموريتاني، كما كلفه بقيادة الأركان الخاصة لرئيس الجمهورية، وعهد إليه بالملف الأمني، فترأس الحملة ضد ما يسمى بالإرهاب التي انتهت باعتقال من ينتمون إلى التيار السلفي عام 2008، ولم تكد تمر سنة على العلاقة الحميمة بين ولد عبد العزيز وولد الشيخ عبد الله حتى عرفت تأزما شديدا انتهى بإقالة ولد الشيخ عبد الله – في 6 أغسطس 2008 – لولد عبد العزيز من قيادة أركانه الخاصة، ومن قيادة الحرس الرئاسي. وفي نفس اليوم، قاد ولد عبد العزيز انقلابا على ولد الشيخ عبد الله، وأعلن مع ضباط آخرين استلام السلطة وتشكيل هيئة أطلقوا عليها “المجلس الأعلى للدولة”، تولى ولد عبد العزيز رئاستها[v]. ويرى المراقبون أن من أهم نقاط قوته سيطرته على المؤسسة العسكرية. حيث يتمتع الجيش بمركز قوي ومحوري في السياسة الموريتانية. كما أن حرب الجيش في مواجهة الجماعات الإسلامية المسلحة في المنطقة مكنت الجيش من تعزيز قبضته على السلطة. وكان ولد عبد العزيز قادرا على كسب ميزة خلال الانتخابات الرئاسية 2014 [vi]– يضاف إلى ذلك هيمنته على الحزب، وهيمنة حزبه على الجمعية الوطنية، حيث يتكون الحزب الحاكم من كوكبة من الأعيان المحليين ورجال الأعمال وموظفي الخدمة المدنية، الذين تعهدوا بالولاء للرئيس. يضاف إلى ذلك قدرة الحزب الحاكم على استمالة المعارضين السابقين. حيث يمكن للحزب الحاكم ببساطة استقطاب المؤيدين من خلال سيطرته على قنوات توزيع الموارد العامة للمجتمعات التي ساندته، وسحب الموارد من تلك التي عارضته. ونتيجة لذلك، تجد أحزاب المعارضة صعوبة في تعبئة قطاعات واسعة من الناخبين[vii]. وقد استطاع ولد عبد العزيز بفضل مساندة الجيش والحزب الفوز في انتخابات عام 2009 و 2014 فيما سيطر حزبه (الاتحاد من اجل الجمهورية) تماما على الجمعية الوطنية وأغلبية المجالس البلدية. [viii] فيما يرى بعض الباحثين أن من أهم نقاط ضعف الرئيس الحالي: غياب الظهير الأيديولوجي والاجتماعي القوي- عدم التوازن في العلاقات الخارجية – علاقته بإيران- كوبا، والنهج الصدامي مع دول الجوار السنغال – مالي. ويرون أن الرئيس غالبا ما يحاول كسب شرعيتها استنادا إلى التذكير بأخطاء الرئيس السابق، وتقديم نفسه على أنه المصحح لهذه الأخطاء، وأنه البديل الأفضل، وهذا كان واضحا في محاولة تبرير استيلائه على السلطة في خطابه في 17 أغسطس 2008 أمام الموريتانيين، حيث قال: “أيها المواطنون…. في ضوء الأحداث الأخيرة في بلدنا، أنا أتحدث إليكم لأبلغكم عن الأسباب الكامنة التي أدت إلى تدخل القوات المسلحة والأمن لإنهاء صلاحيات الرئيس السابق للحفاظ على أمن ووحدة واستقرار الوطن، وحماية المكاسب الديمقراطية. هذه الحركة كانت لها ما يبررها في كثير من النواحي، وذلك بسبب انتهاك الدستور من قبل الرئيس السابق، ومن خلال رفضها المتكرر للسماح للبرلمان أن يمارس صلاحياته بحرية.. (..)، بعد أن انتهك بشكل صارخ المبدأ المقدس للفصل بين السلطات، لجأ إلى أساليب ومحاولات يائسة له لحشد بعض ممثلي الشعب من خلال تقديم المال لهم. وقدم دليلا على عدم قدرته على تقديم أي حل للمشاكل التي تواجه المواطنين في حياتهم اليومية. في قلب هذه التحديات، هناك أزمة اجتماعية واقتصادية بالغة الخطورة (البطالة، ارتفاع أسعار ونقص المواد الغذائية، سوء الخدمات الأساسية والنظام التعليمي… الخ). (……. ) سعى الرئيس السابق لتهيئة مناخ يفضي إلى سوء الإدارة على نطاق واسع، واختلاس الأموال العامة والفساد. وهو الذي شيد ممارسة القبلية والجهوية والمحسوبية في نظام الحكم…… السياسات الكارثية للرئيس السابق لا تقتصر على هذه التي تقود البلاد إلى اضطرابات قبلية وعرقية خطيرة. ولكن توريط الجيش في صراعات حزبية الخلافات وصراعات دموية…… للأسف فعل الرئيس السابق كل شيء… سلوكه غير المسؤول وازدراؤه للمصلحة العامة ورأي الأغلبية التي أتت به إلى السلطة…………… )[ix]. غير أن بعض الباحثين يجد أن ولد عبد العزيز قد كرر ممارسات الرئيس السابق واستغل منصبه وموارد الدولة، وحزب الاتحاد من أجل الجمهورية في كسب تأييد شريحة كبيرة من سكان موريتانيا. بينما كانت المعارضة مجزأة للغاية، غير قادرة على الاتفاق على ترشيح شخصية واحدة للانتخابات. عمل ولد عبد العزيز، خلال الفترة القصيرة التي سبقت الانتخابات، على وضع استراتيجية لتكوين صورة إيجابية عنه لدى الناخبين، قدم نفسه منذ البداية على أنه “مرشح الفقراء”، وبأنه “صوت من لا صوت لهم”، وخلال حملته زار الأحياء، وعقد الاجتماعات، وألقى باللوم على الحكومات السابقة لعدم تلبية احتياجات هؤلاء السكان، وخاصة جهاز الدولة لا يزال تحت السيطرة العسكرية[x]. ثالثاً: الحكومة الموريتانية ودورها في العملية السياسية. تبدو الحكومة الموريتانية في عهد محمد ولد عبد العزيز، ويتغير تشكيلها بين الحين والآخر مع كل أزمة سياسية أو اقتصادية، لعل المثال الأوضح على المأزق السياسي الذي واجهته الحكومة وكاد يطيح برئيس الدولة، هو تصاعد الأزمة السياسية بين أعضاء مجلس الشيوخ الموريتاني والرئيس محمد ولد عبد العزيز، حيث واصل أعضاء المجلس المنتمون للأغلبية تمردهم، واضعين شروطًا قد تبدو تعجيزية للرئيس الموريتاني، وتضعه في مأزق سياسي كاد يودي بمستقبله كرئيس للدولة، حيث ظهرت بوادر الأزمة بعد إعلان الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز، مايو 2016، عن استفتاء شعبي لإلغاء مجلس الشيوخ غرفة البرلمان العليا، التي وصفها الرئيس بأنها “عديمة الأهمية وتثقل مسار سن التشريعات”، وهو المقترح الذي أطلقه الرئيس بعد أن رفضت الأغلبية في المجلس التصديق على قوانين قدمتها الحكومة لغرفة الشيوخ، بينها قانونان يعدل الأول منهما بعض أحكام القانون المتعلقة بالتعليم العالي والبحث العلمي، فيما يتعلق الثاني بالتصديق على اتفاقية القرض الموقعة بتاريخ 22 ديسمبر عام 2015 بين الحكومة الموريتانية والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، والمخصصة لتمويل برنامج عمليات صندوق الإيداع والتنمية للفترة 2016. امتدت الأزمة إلى بعض الوزراء الذين شنوا حملة شرح مضامين خطاب الرئيس الذي تضمن الإعلان عن إلغاء الغرفة، وهو ما أثار حالة من الاحتقان الحاد داخل أروقة مجلس الشيوخ، معتبرين أن هذه الحملة للتهوين من غرفة الشيوخ والتقليل من شأنها، الأمر الذي دفع عددا من أعضاء المجلس إلى التهديد بتجميد عضويتهم في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، والتصعيد ضد الحكومة والحزب؛ بسبب ما يرون أنه تشويه لصورة المجلس، وأشاروا إلى أن جميع الخيارات مفتوحة للتصعيد، بما فيها استخدام جميع الصلاحيات القانونية والدستورية ومقاطعة الجلسات. وامتد الغضب إلى مشروع الاستفتاء الذي اقترحه الرئيس الموريتاني إلى المعارضة، حيث تظاهر حينها آلاف من أنصار المعارضة الموريتانية في نواكشوط، رفضا للمشروع الهادف إلى إلغاء مجلس الشيوخ، وقال الرئيس الدوري للمنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة، وهو ائتلاف يضم 10 أحزاب معارضة، صالح ولد حنا: نتظاهر اليوم لنقول لولد عبد العزيز إن الدستور خط أحمر[xi]. اشترط أعضاء مجلس الشيوخ لحل هذه الأزمة إقالة 14 وزيرا قادوا الحملة الأخيرة ضد المجلس، وهدد بعضهم في حالة عدم التوصل لتسوية للأزمة، فإن المجلس قد يلجأ لرفع دعوى قضائية ضد أعضاء الحكومة الذين طالب بإقالتهم، بتهمة التشهير به؛ بوصفه هيئة دستورية، حيث أكد عضو مجلس الشيوخ الموريتاني، والقيادي المعارض، محمد ولد غده، أن عزل الوزراء الذين أساءوا لمجلس الشيوخ شرط أساسي من أجل استئناف التعاطي مع الحكومة، وأضاف أن الحكومة الحالية لا تفهم احترام فصل السلطات، والشيوخ ماضون في رفض التعامل معها قبل أن تتم إقالة الوزراء الذين تطاولوا على المجلس، واعتبر العضو أن جميع الفرق البرلمانية في المجلس مستاءة من الهجمة التي قام بها بعض الوزراء على المجلس. وهددت الأزمة النظام الحاكم والعمل التشريعي في موريتانيا، حيث لا يمكن تمرير أي قانون أو اتفاقية دون موافقة المجلس عليها باعتباره الغرفة الثانية في البرلمان الموريتاني، الأمر الذي وضع الرئيس، ولد عبد العزيز، في أزمة سياسية كبيرة وهدد استمرار الحكومة الموريتانية. ولذلك يرى بعض المحللين هذه الأزمات السياسية بالإضافة إلى أزمة الحوار الوطني حول التعديلات الدستورية هي بداية لتكرار سيناريو الأزمة التي نشبت في أغسطس عام 2008، بين النواب والرئيس السابق، سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وأدت في النهاية إلى انقلاب عسكري، نتج عنه الإطاحة بنظام سيدي محمد، وهو المصير الذي يحذر منه خبراء[xii]. ولايزال الخلاف السياسي حول تعديل الدستور من أهم التحديات السياسية التي تواجه النظام والحكومة، فقد أكد بيان الحزب الشعبي التقدمي أن التعديل الدستوري يبقى رهن نتائج الاقتراع المباشر للشعب عبر تنظيم استفتاء يكون له القوة والفضل في إيجاد التوافق بين الفرقاء، ويحذر البيان مما وصفه بالإقرار الخفي واللا شرعي، واللا دستوري بشأن التعديلات المذكورة من طرف البرلمان. ويقول إذا ما تأكد مثل هذا التوجه فإن التحالف الشعبي التقدمي يؤكد أنه سيعارضه بقوة عملا بما يوائم هدفه الدائم للمساهمة باستحقاق وسلمية وبشكل مستمر في تأسيس دولة قانون حقيقية، ديمقراطية وموحدة، لأنها تحترم القوانين التي تؤسسها والالتزامات التي تأخذها والاتفاقات الموقع عليها. وسيكون لاغيا ولا مفعول له، أحاديا، لا شرعيا متناقضا تناقضا صريحا مع مقتضيات الوثيقة الختامية للحوار المنقضي قبل أشهر. فليس لرئيس الجمهورية أي سلطة في تجاوز الاتفاقيات الموقعة من قبل المتعاقدين مهما كانت مبرراته. ويعتبر ذلك تعطيلا لحجة الحوار الوحيدة الصريحة التي يواجه بها المشاركون فيه خصومهم فيما يتعلق بمقترحات تعديل الدستور موضوع الجدل. وعليه فإن اقتصار الاقتراع الشعبي آليا على أغلبية سياسية (موالية بل ومتعددة الولاءات الحزبية) برهان ساطع على ضعف الاهتمام الذي يوليه النظام لرأي الشعب، الأكثرية الصامتة غير المسيسة التي تشكل أغلبية ساحقة محتملة من الناخبين، وحتى إن أطرتها الأحزاب. ويقول البيان:…. هدفنا في التحالف الشعبي التقدمي، عندما نشجع على الحوار وعندما نشارك فيه، ظل دائما وأبدا أملا في إعطاء البلد فرصة بداية جديدة حسنة، وهو أمل عززه التصريح المهيب الأخير لرئيس الجمهورية حول المأمورية الثالثة والتي شكلت منطقيا وأخلاقيا فرصة تلطيف وتهدئة، خاصة لتنحية الرهانات المقلقة والمتعددة المساوئ. إن هذا التحول سيعتبره الجميع بلا محالة عودة سريعة للعادات السيئة ورفضا لأي مبادرة ولأي تسوية، وهو ما من شأنه أن يلحق ضررا كبيرا بالسلم والأمن في مجتمع تطبعه الهشاشة المخلة بفعل مخاطر الانفجار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ولهذه الأسباب كلها، فإننا نوجه نداء حارا خالصا إلى كافة الإرادات الوطنية الخيرة ومهما كانت انتماءاتها، في المعارضة والأغلبية للتوحد من أجل قطع الطريق على ما ينذر بانحراف استبدادي جديد حتمي للديمقراطية وللمكتسبات الجمهورية[xiii]. رابعاً: مراكز القوى وتأثيرها على العملية السياسية. يتفق المتابعون للشأن الموريتاني على أنه في حالة الرهان الانتخابي، وخاصة في التجربة الموريتانية، فإن المرشح الأوفر حظا في السباق الرئاسي الراهن، لابد أن يُزكى من طرف مراكز القوى المسيطرة على المواقع الأساسية في البلاد، ويمكن إجمالها في رجال التجارة والمال والأعمال، والمؤسسة العسكرية والبيروقراطية، العشائرية القبلية والجهوية والدينية، ويمكن لغرض التحليل في هذا الصدد التركيز على الجيش والقبيلة على النحو التالي: أولاً: الجيش. منذ أول انقلاب (1978)، ظل رئيس الدولة ينتمي للمؤسسة العسكرية ( باستثناء فترة قصيرة لمدة 17 شهرا، ما بين عامي 2007 و 2008). وغالبا ما كان تغيير القيادة يحدث عن طريق انقلاب عسكري. وفي عام 1991 وافق العقيد ولد الطايع على تبني دستور جديد، وتنظيم انتخابات متعددة الأحزاب في المستويات الرئاسية والتشريعية والبلدية. في عام 2005، أطيح بالعقيد ولد الطايع من أقرب معاونيه، ثم قائد الحرس الرئاسي، ولد عبد العزيز. وأدت هذه الفترة الانتقالية لإجراء الانتخابات البلدية والتشريعية في عام 2006، والانتخابات الرئاسية في عام 2007. وفاز فيها سيدي ولد الشيخ عبد الله. ومع ذلك، كان الرئيس المنتخب أطيح به في أغسطس 2008، بعد 17 شهرا في السلطة، من قبل نفس الضباط الذين نظموا انقلاب 2005. ونظم ولد عبد العزيز بعد ذلك الانتخابات الرئاسية في عام 2009، الذي فاز في الجولة الأولى. فيما فاز حزبه، الاتحاد من أجل الديمقراطية الذي سيطر على أغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية. بحلول عام 2014، وكان عبد العزيز قد أحكم قبضته على السلطة السياسية. إعادة انتخاب ولد عبد عزيز يؤكد هيمنة ضباط الجيش في السياسة الموريتانية. سيطرة حزبه على جميع المجالس المنتخبة[xiv]. على الرغم من تباين بعض القوى السياسية تجاه موقف ‘الحياد’ الذي تبديه المؤسسة العسكرية متعللة بوجود نوع من الخروقات العلنية لهذا الحياد، إلا أن مؤسسات المجتمع المدني الموريتاني أعلنت باسم مرصد مراقبة الانتخابات أنه لا يزال هناك التزام قوي بهذا التعهد بالحياد التام من قبل المؤسسة العسكرية، سواء تعلق الأمر برئيس أو أعضاء المجلس العسكري، أو بالحكومة الانتقالية، وربما يأتي هذا الارتياح من جانب مؤسسات المجتمع المدني للمؤسسة العسكرية ودورها في سير الانتخابات من جملة الإجراءات الناجحة التي بدأتها المؤسسة لمعالجة حالة الاحتقان التي أصابت الحياة السياسية بالشلل شبه التام سواء على مستوى الداخل أو الخارج.[xv] ثانياً: القبيلة: ترسخ القبيلة نظامها الطبقي وتتحكم في أدوار الفاعلين في المجال العام. وقد دأبت الحكومات على إعطاء الحراطين حقيبتين إلى ثلاث، بالإضافة إلى تمثيل ضعيف لهذه الفئة داخل المجالس التشريعية والبلدية، بينما يرى دعاة الحقوق أن هذا التمثيل السياسي قليل حيث تمثل هذه الشريحة الأغلبية الديمغرافية لسكان البلد. غيـر أن النفوذ القبلي يفرغ ممثليها من الأدوار المنوطة بهم تجاه الرفـع من هذا المكون الاجتماعي الهام. إن القبلية تجبر هؤلاء على تحقيق قفزات هرمية، على حساب شريحتهم التي تبقى في أسفل الهرم. “خطر تغول القبيلة أنها عائق أمام تقدم الدولة وتحولها إلى المؤسسية والمدنية، كمثل ترسيخ دولة القانون، إذ تسوى أغلب الخلافات خارج نطاق القضاء والقواعد القانونية، وحتى أن الأحكام القضائية تعرقلها الأعراف بين القبائل. كما أن القبيلة عائق أمام بروز ديمقراطية حقيقية فهي تقوم على تراتبية صارمة، والولاء للقبيلة وشيخها أصبح أكثر قدسية من الولاء للالتزامات الدستورية والقانونية في الدولة[xvi]. لقد حُلّت الدولة الوطنية لصالح العشائرية. ولا يعني هذا انتفاء المركزية، بل إن مشاريع البناء العام والتعيينات والاكتتابات تُصبح متوسطةً بالمحاصصات أو التوازنات القبلية. تغول القبيلة يوازي إذاً استقالة الدولة من دورها المجتمعي واكتفاء الحكام بنهب الثورة وعدم الاكتراث بالواقع العام للناس ولا بتطوير مؤسسات الدولة، فلا يجد المواطن سوى قبيلته ليحتمي بها من ضربات الزمن، فهي تساعده في البقاء حياً عبر برامج التكافل الاجتماعي بين أبناء العمومة، فتقدم له الدواء حين يمرض والمال حين يحتاج وتساعده في العمل فهي مصعد للتوظيف وللبروز السياسي. وهذا يجعل المنتفع منها تحت رحمة شيوخ القبيلة وقراراتهم. ويظهر أثر ذلك بشكل جلي في العملية السياسية الدائرة حيث تسعى السلطة من خلال شيوخ القبائل لمحاربة كل الأصوات المعارضة[xvii]. مركز المزماة للدراسات والبحوث