
يقال فى حب الوالد لولده
حب الآباء لأبنائهم تتحدثون ؟ لقد رأيت من أبي مشهداً قام مقام المجلدات التي تسطر في هذا الموضوع، لقد عرفت والدي هادئاً متزناً وقوراً، خاصة بعد أن علاه الشيب وانحنى ظهره ، وقد فوجئت أيمـا مفاجأة إذ رأيته ينفجر باكياً وقد كاد القطار أن ينطلق بي وبأسرتي مسافرين إلى مقر عملي ، ولكن ما رأيته بعدُ كان أعجب ، بدأ القطار مسيرته فإذا بالأب الباكي يساير القطار في مواجهتنا ينظر إلينا من خلال دموعه الهاطلة ، وينطلق القطار يعدو وإذا بوالدي يجري جرياً يلوح لنا بيديه ، ويدعو بلسانه ، وقد نسي أنه ابن الستين ونسي وقاره واتزانه ولم يلتفت إلى العيـون التي ترمقه من هنا وهناك ، ولم يلتفت إلينا ونحـن نشير إليه بأن يكف ويرجع ، وإذا بي وقد شدهني المنظر أغلق النافذة رحمة به ليكف ، ولأنني لم أستطع أن أرى أكثر مما رأيت .
وذكرني محدثي بذلك الرجل المتأنق في لباسه المعتني بمظهره ، حتى إذا ما سجن ولده ذهل عن نفسه ، وأهمل العناية بهندامه ، وحل مكان البشـاشة التي كانت تلازمه كآبة تعلوه ، ونظراته أصبحت هائمة زائغة .
وقد يصل حب الآباء للأبناء أن يُصـاب الآباء بمرض جسماني إذا ما حدث للولد شيء أو غاب عن أبيـه ، أوَلم يفقد نبي الله يعقوب بصره لشدة حـزنه على ابنه يوسف ؟! ( وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وأبيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ) يوسف:84 . وقد خشي عليه أبناؤه الهلاك لكثرة ذكره ليوسف : ( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين ) يوسف:85 .
ويشم الأب المحزون ريح يوسف عندما قدم أحدهم بقميصه ولمـَّا يصل إليه، حتى إذا ما ألقاه على وجهه ارتدّ بصـيراً ، ألا ترى كيف أعاد الله إليه بصـره بفرحته بالبشرى ؟.
روى الترمذي في سننه عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : فمـاذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً، وسمُّوه بيت الحمد ]
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟
فما دامت هذه مكانة الأبناء في نفوس الآباء ، ولهما الفضل السابق ، إذ هما سبب وجود الإنسان ، ولهما عليه غاية الإحسان ، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق ، فحقٌ على الأبناء أن يعترفوا بالإحسـان ، وأن يشكروا النعمة ( أن اشـكر لي ولوالديك إليّ المصير ) لقمان:14 . خاصة عندما يبلغـان من العمر عتيـًّـا فيجب التواضع لهما ، ومخاطبتهما بالقول اللين، وتكريمهما والدعاء لهما ( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا ) الإسراء:23 .
ولو فعل الولد ما فعل ما جزى والده [ إلا أن يجـد الولد والده مملوكًا فيشتريه فيعتقه ] كما صح بذلك الحديث من رواية مسلم ، ذلك أن الحرية والخلاص من العبودية حيـاة جديدة تقابل تلك الحياة التي كان الوالد هو المتسبب بها .
ومن بر الوالدين ألا يتسبب الابن في إيصـال الأذى إليهما . يقول صلى الله عليه وسلم : [ من الكبائر شتم الرجل والديه ] . قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟! قال : [ نعم ، يَسُبُّ أبا الرجل فَيَسُبُ أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ] . رواه البخاري ومسلم .